حياتي المثلثة: الكتاب .. الموسيقى .. السفر

في غلالة الفجر الجديد، بعد هدير النشأة الأولى، كان الصوت والصدى والرنين. كانت الكلمة، كلمة الخلق. وفي ذلك السديم السرمدي الرخو، تنفس الشجر والماء، والطير و الأيل. ومن شهيق الغابة و زفيرها، من غناء العصفور وهمس النسيم ولدت الموسيقى. الكلمة والموسيقى توأمان في جسد واحد ورداء واحد

وعيت على نفسي وأنا رفيق الكتاب والكتابة. درست القانون ولم أمارس المحاماة أو أعمل في سلك القضاء. لا أحب القيود أو الحشود أو قاعات المحاكم. درست الموسيقى ولم أمارسها كمهنة ولا أنوي ذلك. الموسيقى الجادة لي هي السماع والقراءة والكتابة عنها. متابعة الكتب والمجلات الموسيقية الرصينة. أحب المكتبات، وصالات الموسيقى، ومحطات القطار. القراءة، الموسيقى، السفر، هي مثلث حياتي

عاشق المكتبات

أقضي الساعات في مكتبات لندن، أو أية مدينة أحل فيها، أناملي تزحف على الرفوف، تتلمس الكتب بحنو، أسحب واحداً منها، أتأمل لون غلافه، عنوانه، أرتمي على أحد المقاعد الوفيرة المتناثرة، أقرأ ما أشاء ثم أعيده الى رفه دون أن أضطر على شراء اي شئ

هاتشارد .. المكتبة الأكثر أناقة في لندن. تأسست في العام ١٧٩٧ وما تزال فاتنة تستقبل عشاق الكتب

Credit: Hatchard Bookstores

آلاف اللغات واللهجات في عالمنا، تختلف فيها الحروف ومخارج الكلمات وأصواتها. لكن هناك لغة واحدة فقط يتفاهم بها جميع البشر، حتى الطيور والحيوانات، هي لغة الموسيقى. سبعة أحرف على السلم الموسيقي تمنح لنا كل هذه الأنغام العذبة منذ أن وجد الكون حتى اليوم ولم تنضب. فيا لروعة الموسيقى .. هذا السحر الجميل

يأسرني منظر القطارات، الصاعدة والنازلة والمتوقفة على الأرصفة في المحطات. أجلس في مقهى المحطة، أرتشف كوباً من القهوة، متأنيًا، مستمتعاً بالمشهد. لا أحب السفر في الأجواء والبحار انه ممل. أحب السفر على الأرض، ملتصقاً بالتراب ورائحته، قريباً من العشب والشجر والحجر، قريباً ممن جئت وإليه أعود.

مقالات ومذكرات

 أطمح أن يكون موقع ”كلمات وموسيقى“ مزيجاً من الذكريات والمذكرات، ومتابعات ثقافية وفنية، وما أغزرها وأغناها في مدينتي لندن. نحن ندون ذكرياتنا ومذكراتنا كل ساعة، بل كل دقيقة، من خلال أحاديثنا مع الآخرين، على الهاتف، في البيت، في الشارع، في العمل، في السوق. ليس بالضرورة ان يحدث هذا بالقلم والورق، ذاكرتنا تحفظ هذه الأحداث مثلما يحفظها الورق

 الزهور المتنوعة تكون باقتها أجمل وعطرها أزكى. أريد هذا الموقع باقة من الزهور البرية في المروج الربيعية التي أعشق التجوال فيها، كما كنت أفعل أيام الصبا في حقول بلدتي الوادعة داقوق الغافية في حضن نهرها. والآن في حقول إنجلترا التي مروجها وغاباتها مسرة للعين والقلب. أريد هذا الموقع متنوعا مشعًا بالألوان مثل خرزات الصبايا اللعوبات

كيف أصابني سحر الكتاب والكتابة؟ لست أدري. العاشق لا يسأل لماذا يحب، ولا يتساءل عن ماهية الحب وإلا تحول الحب الى مادة فلسفية، يتوقف القلب عن الخفقان ويتولى العقل المهمة. أنا أميل الى رفقة القلب وجنونه منذ الطفولة

قراءات أولية

العلاقة مع الكتاب تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة، مع أولى خطوات الطفل في المدرسة، مع تلمس الأنامل الصغيرة الطرية أوراق الكتاب، لكنها علاقة آلية نفعية، لا علاقة وعي وتفكير. علاقة ليست لها تجربة الفرادة مع النفس، هذه التجربة تبدأ مع نمو الوعي وإكتمال النضج. أحب انتقاء الكلمات لا لإثارة الدهشة بل بحثاً عن لؤلؤة الجمال فيها، عن موسيقاها، رنينها وحسن معناها. الطفل يحتاج الى عامين ليتعلم الكلام وستين عاما ليتعلم الصمت. هكذا يقولون. الصمت أجمل. الصمت رفيق الكتاب والكتابة.. رفيق التأمل والمعرفة

.كيف بدأ شغفي المبكر بالكتاب، لا أعرف. لكني أتذكر، في ضباب ا

لماضي البعيد، انه بدأ مع الكُتّاب المصريين، قبل هؤلاء لا أتذكر البدايات. أذكر ان أول كتاب قرأته حتى نهايته كانت رواية ”اني راحلة“ ليوسف السباعي. كنت في الثانية عشرة من عمري. رواية مبللة بالرومانسية. وهل يحتاج صبي في سني المراهقة الأولى أكثر من أسى العاطفة ليكون بطل القصة، فتى الحبيبة الوهمية، ليغوص في بحور الصمت اللذيذ؟ ربما يكون مثيراً للشفقة ان أعترف أني أعدت قراءة هذه الرواية قبل بضعة أعوام في لندن، بعد هذه السنين، حنينًا الى أيام الصبا. ثم التهمت بقية رواياته وأحببت كثيرًا روايته “رد قلبي” التي تحولت الى فيلم ناجح من تمثيل مريم فخرالدين وشكري سرحان ومن اخراج عزالدين ذوالفقار. ثم توالت كتب طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ ، يوسف ادريس، وغيرهم.

الصورة: يوسف السباعي.

!أصبحت أمين مكتبة

 كنت آنذاك طالبًا في السنة الأولي في متوسطة الشرقية في كركوك، أظن كان ذلك في العام ١٩٥٤، وكانت في المدرسة غرفة مكتوب على بابها "المكتبة"، فيها بضعة كتب وكتيبات بدأت أستعير منها. أدرك مدرس اللغة العربية، وأظن ان اسمه كان احسان عبد الحميد والذي كان يحتفظ بمفتاح الغرفة، شغفي بالقراءة فسلمني المفتاح ودفتر الاستعارات فصرت أميناً على المكتبة. يا لها من وجاهة! ويا لها من متعة رفقة الكتب، واكتشفت كاتباً مصرياً فذاً آخر حين قرأت رواية “غصن الزيتون” لمحمد عبدالحليم عبدالله. لغة شفافة وتعبير حساس عن العواطف الانسانية. هكذا قرأت معظم رواياته وأحببت منها “شجرة اللبلاب”، “بعد الغروب”، الوشاح الأبيض” وغيرها. تلت هؤلاء كتب طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف ادريس واخرين غيرهم.

الأداب الأجنبية

 شعاع ما، شرارة ما، صدفة ما، عرفتني على الكتب الأجنبية. كانت "دار العلم للملايين" اللبنانية لمنير البعلبكي رائدة في نشر هذه الكنوز الأدبية مترجمة الى العربية. أتذكر ان اكتشافي للأدب الغربي بدأ مع الكُتّاب الأميركيين. مع روايات "طريق التبغ"، "أرض الله الصغيرة" للكاتب أرسكين كالدويل (١٩٠٣-١٩٨٧)، عن معاناة عمال التبغ والطبقات الكادحة في ريف الجنوب الأميركي. رواية "مغيب القمر" لجون شتاينبك، عن مقاومة قرية للاحتلال النازي. ثم اكتشفت روايات الأميركي الآخر أرنست همنغواي فبدأت ألتهمها ما كانت مترجمة منها الى العربية، "وداعاً للسلاح" قصة حب أثناء الحرب العالمية الأولى، "لا تزال الشمس تشرق" عن مصارعي الثيران في اسبانيا.، "لمن تقرع الأجراس" عن الحرب الأهلية الإسبانية في زمن الدكتاتور فرانكو، "المجموعة القصصية القصيرة" ومن هذه المجموعة ترجمت الى العربية قصة "قطة في المطر" نشرتها مجلة "الاخاء" (قارداشلق) والتي كانت تصدر باللغتين التركية والعربية في بداية ستينيات القرن الماضي. لكن الكتاب الذي غير وجهة تفكيري آنذاك ودفعني نحو التعاطف مع الطبقات الكادحة كانت رواية “أرض ثمارها من ذهب” (هكذا تُرجم العنوان الى العربية) للروائي البرازيلي الكبير جورجي أمادو ( ١٩١٢-٢٠٠١)، أحد اهم كتاب البرازيل وأميركا اللاتينية وأكثرهم شهرة

أرض ثمارها من ذهب

جورجي أمادو، هذا الكاتب الفذ، أسرتني كتاباته وأحتلت موقعاً خاصاً في وجداني بعد أن قرأت في لندن بعض كتبه المترجة الى الانجليزية مثل “أرض العنف”، “الكاكاو”، “الثوم والقرفة”، “دونا فلورا وزوجها”. له أكثر من أربعين كتاباً، ترجمت أعماله الى اكثر من ثلاثين لغة وبيعت منها اكثر من خمسين مليون نسخة. خاض أمادو النضال السياسي منذ يفاعته، اذ أنضم الى الحزب الشيوعي البرازيلي عام ١٩٢٦بعد ان تأثر بمظاهر الظلم الاجتماعي وسيطرة ملاك مزارع الكاكاو على مقدرات المزارعين. ثم انتخب عضوا في البرلمان عام ١٩٤٦ لكن الحكومة العسكرية حظرت الحزب الشيوعي فاضطر الى مغادرة وطنه متنقلا بين اوروبا وافريقيا حتى عام ١٩٥٢.

م

لقاء العمر مع أمادو

،أسعدني الحظ أن ألتقي شخصياً جورجي أمادو أحد أهم كتاب البرازيل واميركا اللاتينية عموما،

في مدينة أصيلة بالمغرب حيث كنت مدعواً الى مهرجانها الثقافي السنوي في العام  ١٩٩١ وكان أمادو مدعواً اليه ايضا مع زوجته، حيث أقيم له هناك احتفال بعيد ميلاده الثمانين. وأذكر من كلمته التي ألقاها في الاحتفال: “يا أصدقائي الأعزاء، الذي بلغ الثمانين من عمره لا يحتاج الى حفل ميلاد بل الى مراسيم عزاء له


حين زرت البرازيل عام ١٩٩٢ لتغطية مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ “قمة الأرض” ومكثت فترة في ريو دي جانيرو أدركت مدى شعبية كتاباته ومدى مكانته الأدبية الرفيعة في عموم اميركا اللاتينية.

 

 

: الصورة: هاب ولي مع جورجي أمادو في المغرب (١٩٩١)

أوروزدي باك

حين أنهيت المرحلة المتوسطة ذهبت الى بغداد لإستخراج شهادة الجنسية العراقية التي كانت من الوثائق المطلوبة لدخول دار المعلمين. اكتشفت في بغداد كتب الأدب الإنجليزي في جناح الكتب في مخازن "أوروزدي باك" الفخمة التي افتتحت في بداية عشرينيات القرن الماضي في شارع الرشيد، أهم شوارع بغداد آنذاك. أتذكر ذلك المبنى المكون من طابقين بينهما مصعد كهربائي، ولم يكن مثل هذا المصعد مألوفاً في العراق وفي كثير من بلدان الشرق. كان ذلك المخزن الأنيق لا يقل جمالاً آنذاك عن مراكز التسوق الحديثة في لندن اليوم، مثل متاجر "جون لويس" و"سيلفريدجز". كان في الطابق الثاني جناح مخصص للكتب والمجلات والصحف الإنجليزية التي كانت ترد مباشرة من لندن، ومقابله جناح آخر للإسطوانات الموسيقية الغربية. الكلاسيكية والشعبية. وتعود تسمية هذا المحل الى عائلة باك اليهودية النمساوية ثم تشارك معها عائلة أوروزدي اليهودية النمساوية ايضاً فسميت سلسلة المخازن هذه باسم العائلتين. وحين تخرجت من دار المعلمين عام ١٩٦٢ وعيّنت مدرساً وتمكنت مادياً دأبت على زيارة بغداد كل صيف لحضور معرض بغداد الدولي السنوي، الذي كان حدثاً تجاريا واجتماعياً متميزا يستمر لشهر كامل، وأثناء تلك الزيارات كنت ازور محلات اوروزدي باك بانتظام، وأتذكر ان من مشترياتي منها آنذاك، بالاضافة الى بعض الملابس والكتب، اسطوانة موسيقية للموسيقار الألماني فليكس مندلسون رغم انني لم أكن املك جهاز غرامفون لأستمع اليها

الصورة: مبنى محلات “أورزدي باك” في بغداد

مكتبة مكنزي

اكتشفت

في تلك الزيارات الى بغداد أيضاً “مكتبة مكنزي “في شارع الرشيد للكتب الإنجليزية الجديدة والمستعملة، بالإضافة الى المجلات والصحف الواردة مباشرة من لندن. كان صاحب هذه المكتبة شخص أسكتلندي يدعى كينيث مكنزي، أسس مكتبته في بدايات القرن الماضي، وأظن أنها أغلقت في الستينات بعد أن ساد العراق الغوغاء الثوري. انبهرت بواجهة هذه المكتبة المتميزة بالطابع الانجليزي وبرفوف الكتب فيها، فدخلتها متردداً وجلاً، ومن ارتباكي، وحتى لا أغادرها دون ان اشتري شيئاً، سحبت من أحد الرفرف كتابا بغلاف أصفر وعنوان "قصص قصيرة" للكاتب الإنجليزي سومرست موم، وبدأت أفك رموز الأدب الإنجليزي مستعيناً بالقاموس. وفي بداية الستينيات بدأت بنشر كتاباتي في صحف ومجلات عديدة في الوطن العربي منها جريدة الجمهورية ومجلة ألف باء ومجلة اتحاد الأدباء العراقيين، ومجلة العربي الكويتية، مجلة الآداب اللبنانية، وغيرها.

الصورة: المبنى الذي كان يأوي “مكتبة مكنزي” في بغداد

لماذا الموقع بلغتين؟

لماذا هذا الموقع باللغتين العربية والانجليزية؟ حسناً.، الطائر يطير بجناحين، وأنا، لحسن حظي، أملك ثلاثة أجنحة لكن لا أطمح في الطيران. أرتاد المدن والبحار اوالجبال والغابات على الأرض. أحب رائحة التراب بعد المطر والعشب المبلل بقطرات الندى

جناحي الأول لغة الأم، اللغة التركية بلهجتها التركمانية المحببة. لغة أغاني أمي وهي تهز مهدي وتردد أعذب الأنغام. اللغة التي ترسَبَت في وعيي ولاوعيي كما تترسب ذرات الذهب بعد ان تُستخرج من الصخور وتمر بالمصفاة وتتحول الى سبائك تصنع منها قلائد في جيد النساء الفاتنات. اللغة التي قرأت بها أشعار ناظم حكمت وأورهان ولي، روايات رشاد نوري كونتكين ويشار كمال وقصص سعيد فائق و فروزان. اللغة التي تُكتب وتُغنى بها أغاني “الخوريات”رمز التركمان الأدبي والفني والمليئة بالحكمة والعاطفة. اللغة التي لا يستطيع لصوص النسيان سرقتها مني أبداً مهما طال السنون والدهور. انها لغة الروح والدم

جناحي الثاني العربية: اللغة التي رسمتُ بها أول حروف الأبجدية فأضاءت لي طريق النور. قرأت بها أجمل الروايات، أعذب الأشعار، أغنى كتب الفكر. أحببتُ منحنيات حروفها، شكل كلماتها، ثراء مفرداتها، تعدد معانيها، غنى كنوزها. بها تعرفت على أجمل جواهر التراث العربي، من “كتاب الأغاني” للإصفهاني الى كتاب “الحيوان” للجاحظ و”العقد الفريد” لإبن عبد ربه و”البصائر والذخائر” للتوحيدي. قرأت طه حسين، سلامة موسى، نجيب محفوظ، أحمد شوقي، يوسف ادريس، سعدي يوسف وعشرات بل مئات غيرهم. اللغة التي أخذتني من يدي الصغيرة، وأنا أحبو، كي أخطو أولى خطواتي المترددة في حقول المعرفة. العربية لغة بصري وبصيرتي.

جناحي الثالث الإنجليزية: قرأت النتاج الثقافي والفني الإنجليزي بلغتها الأصلية، من شكسبير الى فرجينيا ولف، ومن جون كيتس الى ايملي برونتي وشقيقتها شارلوت برونتي. من سلفيا بلاث الى لورنس داريل. ومئات غيرهم. بها أحلق حول العالم، من ذرى جبال الألب السويسرية والنمساوية وقراهما وأزياء فلاحيها، الى رمال شواطئ البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ومن ضفاف أنهار الدانوب والسين الى غابات الأمازون. تحدثت بها مع هنود الغابة شبه العراة، أحببت سحناتهم النحاسية وطيبتهم وعفويتهم، أصغيت لحكاياتهم وأغانيهم، تشاركت طعامهم. لغتي هذه كانت معي في بساتين الأندلس العطرة، ومقاهي فيينا الأنيقة، ومطاعم باريس الشهية، وشوارع روما العتيقة. تعاملت بها مع أبناء شعوب ذوي سحنات مختلفة، لغات مغايرة، عادات متنوعة، معتقدات غريبة. أجوب بها طليقًا أينما أشاء دون قواميس ومترجمين. إنها لغة المعرفة والعلم. لغة العالم، لغة كوكبنا الأزرق الجميل.


Previous
Previous

نشيد الأرض” لغوستاف ماهلر“

Next
Next

الموسيقى الكلاسيكية .. قصة حب مع العقل والروح