(4)رحلتي الى غابات الأمازون
جولة في مناوس .. عاصمة الأمازون
زيارة دار الأوبرا ومتحف سكان الغابة الأصليين
دليلي الهندي يأخذني الى قبيلته
في فندق "تروبيكال هوتيل"، كما في مطار مناوس، لا شيء يذكرك بغابات الأمازون اطلاقاً، باستثناء حديقة الحيوانات الصغيرة التي تأوي بعض حيوانات وطيور الغابة، وايضاً بركة ينبت فيها عدد من زنابق الماء الضخمة.
بعد ان أخذت حماماً باردًا لازالة الرطوبة اللزجة الملتصقة على جسدي تمددت على الفراش في استراحة قصيرة في الغرفة المكيفة الهواء، احسست بشى من الانتعاش، ثم نزلت الى قاعة الاستقبال وتحدثت الى سيلفيا، المسؤولة عن استقبال النزلاء، وذكّرتها بأنني طلبت، ضمن حجزي، ان يرتب لي الفندق دليلًا يرافقني في ذهابي الى الغابة. قالت انها تعرف هذا وسترتب لي الموضوع هذا المساء. جلست في بار الفندق وطلبت كأسًا من البيرة الباردة وبدأت اقرأ في الكتاب الذي كان معي عن الأمازون الى أن حان موعد العشاء.
اتصلت بي سيلفيا بعد ذلك في غرفتي على الهاتف واخبرتني انها رتبت لي مرافقي، وهو شاب من هنود الأمازون يجيد اللغة الانجليزية ويدعى فارغو، وسيلتقي بي في الفندق غدً صباحًا في الساعة الثامنة والنصف.
فارغو .. دليلي الهندي
كنت اتناول فطور الصباح في مطعم الفندق حين جاءت سيلفيا برفقة دليلي الهندي. شاب في الثلاثينات من عمره، أمازوني السحنة بوضوح ومريح الوجه. بعد تبادل التحيات تركتنا سيلفيا، وسألني فارغو منذ متى وأنا في البرازيل وسبب مجي الى هذا البلد، فشرحت له انني صحافي من لندن أوفدتني صحيفتي لتغطية قمة الأرض في ريو دي جانيرو والتي انتهت اول البارحة، فضحك قائلًا : إذاً كنا معاً في المؤتمر. ثم اردف انه يعمل مع المنظمات الأهلية البرازيلية المهتمة بالبيئة. وقال انه خريج قسم الجغرافية في جامعة مناوس، وانه من نشطاء البيئة والدفاع عن هنود الأمازون، ويعمل أيضًا كدليل للراغبين في زيارة الغابة من اجل الحصول على دخل اضافي لإعالة عائلته المكونة من زوجته وطفليهما وهما ولد وبنت، وان زوجته كانت زميلته في الجامعة، وهم يسكنون في مناوس. ارتحت كثيرًا لفارغو وغبطت نفسي على ان دليلي في تلك الغابة الموحشة والمخيفة هو شاب من سكان الأمازون الأصليين، ويبدو انه حاصل على ثقافة جيدة وله شعور انساني دفعه للانخراط في العمل المدني لخدمة البيىئة والدفاع عن قومه من الهنود.
“مدينة مناوس .. وفي مقدمة وسط الصورة دار أوبرا “تياترو أمازوناس
مناوس .. عاصمة العالم
تحدثنا عن برنامج الرحلة والترتيبات المالية المتعلقة به شخصياً وبصاحب القارب الذي سيأخذنا الى داخل الغابة ويمكث معنا، ثم المواد التي سنأخذها معنا. سألني عن المدة التي ارغب في قضائها داخل الغابة، قلت له انني بالكاد أقنعت رئيس تحرير صحيفتي ان يمد بقائي في البرازيل لأسبوع واحد لكني اعتقد انه لا يمانع اذا تأخرت يوما او يومين او حتى أكثر في العودة طالما سأكتب مشاهداتي لصحيفتي، فقال هذا يعني اننا سنكون في الغابة لخمسة او ستة ايام اذا اخذنا في الاعتبار انك تحتاج يومًا للعودة الى ريو دي جانيرو لتقل الطائرة من هناك الى لندن. ثم ار ف قائلًا انه يقدر اهتمامي بالغابة وسكانها ومحاولتي لتعريف قراء الصحيفة بأوضاع الهنود ونمط حياتهم، وأنه، بالرغم من قصر مدة احتكاكي بالسكان الأصليين، الا انه مهم جدًا طالما ان هدفي ليس مجرد التفرج عليهم كنوع من انواع التسلية. فالبرازيل هي أكثر بكثير من التمتع بالشمس والبحر ورقصات السامبا وأشهر فرق كرة القدم في العالم. إنها موطن أعظم غابات مطيرة وأكبر نظام نهري في العالم وأكبر شلالات من حيث الحجم. لكن أكثر من وفرة العجائب الطبيعية فيها هو التنوع الاستثنائي وثراء سكانها. واضاف قائلا: انك سترى ان الهنود سكان الغابة الأصليين أناس طيبون ومسالمون يكافحون من اجل بقائهم بعد ان تعرضت قبائلهم لمجازر كبيرة وصلت حد الابادة. سالته فيما اذا كان هو من احدى هذه القبائل وأين هو موقع قبيلته. اجاب: نعم، انا من قبيلة توبي غوراني وسنقضي ليلتين معهم وسنتحدث عنهم في آنذاك حيث تعايشهم على الطبيعة. شعرت بشيء من الأمان ان الهنود الذين سنلتقيهم ونبيت في اكواخهم هم من الذين ينتمي اليهم فارغو بعد ان كان هذا الموضوع مصدر خوف وقلق لي.
شعب توبي غوراني
قال فارغو انه سيذهب الى مدينة مناوس للعثور على صاحب قاربنا، فاذا ما رغبت في مرافقته الى هناك لالقاء نظرة على بعض معالم المدينة، وخاصة دار الأوبرا، فهو مبنى ضخم ومن اهم العلامات على العصر الذهبي الباذخ للمدينة.
في طريقنا الى مناوس شرح لي فارغو ان منطقة الأمازون، او حوض الأمازون، تقع في أراضي تسعة بلدان هي البرازيل، فنزويلا، كولومبيا، أكوادور، بيرو، بوليفيا، غويانا، غويانا الفرنسية وسورينام، وتغطي مساحة ستة ملايين كيلومتر مربع. لكن البرازيل وحدها تحتضن 70 في المائة من مجموع مساحة حوض الأمازون في جميع تلك البلدان.، وهذه المساحة مغطاة بالغابات الكثيفة المكونة من الأشجار العملاقة ذات الأغصان الكثيفة التي تحجب ضوء الشمس عن الأسفل، وأن اثنين في المائة فقط من ضوء الشمس تصل الى أرض الغابة في اكثر المناطق بحيث يتعذر إلتقاط صورة فوتوغرافية في وضح النهار دون استعمال ضوء الفلاش
شعرت بألفة مع دليلي كما شعرت في أعماقي بامتنان كبير لموظفة الفندق سلفيا على اختيارها هذا الشاب دليلاً لي في وحشة الغابة وتمنيت لها حياة سعيدة.
نزلت معه الى مدينة مناوس، التي عاشت ذورة مجدها في بداية القرن الماضي. فخلال ربع قرن كانت هذه المدينة ليست عاصمة الأمازون فحسب بل عاصمة العالم في تجارة المطاط، فمنها كانت تصدر تسعين في المائة من هذه المادة الى أنحاء العالم. وكانت مزارع اشجار المطاط مملوكة الى حفنة من التجار الكبار الذين لا يتعدى عددهم المائة، يستخدمون في مزارعهم الهنود المحليين تحت ظروف قاسية
متحف هنود الأمازون
لم يكن هنود الأمازون أكثر من عبيد بائسين معرضين لشتى أنواع القسوة والابادة، اذ ادعى حد هؤلاء التجار الكبار من البرتغاليين انه قتل 400 هندي في يوم واحد. وقد جلب المطاط ثروة هائلة الى مناوس ففقدت هويتها الهندية وتحولت الى مدينة حديثة باذخة في قلب الغابة، حتى ان بارونات المطاط كانوا يقيمون الحفلات ويأتون بالفنانين الكبار من العواصم الأوروبية، ووصل بذخهم الى انهم كانوا يرسلون ثيابهم القذرة للتنظيف في باريس ولندن. وبنوا قصورهم الفخمة جالبين مواد البناء من اوروبا، فدار الأوبرا في المدينة، والتي بدأ بناؤها عام 1881 وانتهى في العام 1910، كلفت عشرة ملايين دولار اميركي في ذلك الوقت. وقد جُلبت بلاطها من فرنسا، وآجرها المزين من ايطاليا، وحضر ليلة افتتاحها نجوم العالم المشهورون. وهو مبنى، بالرغم من فخامته وزخرفته الواضحين، لا يوحي بالاصالة ويفتقد الى الحضور الجوهري ضمن البيئة الطبيعية. انك تحس وأنت تتأمله عن بعد كأنه جسم غريب مزروع قسراً هناك، وان موقعه الطبيعي هو في احدى ساحات لندن او باريس او روما، انه مثل واضح، ايضاً، على ان اولئك الذين هبطت عليهم الثروة المفاجئة ما كانوا على علاقة حميمة بالمنطقة وبيئتها ولا حتى مع الفن، وما كان هدفهم منه، ومن غيره من المباني الباذخة التي اقاموها في ذلك العهد، سوى التظاهر بالفخامة ورفعة الذوق المزيف، وايضاً اظهار الاحتقار للفن والبيئة المحليين.
وكان احساسي هو نفسه مع دار الجمارك والمنارة البحرية القائمتين في الميناء على نهر ريو نيغرو. فقد جلب هيكلها قطعة فقطعة من انجلترا. وشيدتا على قاعدة طافية فوق الماء لتلائم طبيعة النهر الذي يصل الفرق في منسوب مياهه الى اربعين قدما اثناء موسم الفيضانات وبعده.
زرت بعد ذلك المتحف الهندي، وهو مبنى متواضع قديم ذو طابع محلي تشعر بألفة تجاهه اذ هو في انسجام مع ما يحيط به معماريا وبيئيا، لكن محتواه بائس، ليس اكثر من بعض الحاجيات اليومية التي يستعملها هنود الأمازون. انه متحف فولكلوري تحس ان الهدف من اقاموه ليس تقديم صورة اتنوغرافية حقيقية عن سكان المنطقة بقدر ما هو جذب السياح وارضاء نزعتهم الغرائبية. وانت تغادر المبنى ينتابك احساس عميق بالكآبة لأن مأساة هنود الأمازون واضحة بشكل جلي في محتويات المتحف لا لثرائه ونجاحه في غرس هذا الانطباع عندك بل لفقره وفشله في هذا الدور. أكثر ما يعطي انطباعا صادقا عن الامازون وسكانها هو الميناء الفخم وما يحيط به من الأحياء الفقيرة.
ثمار الغابة الوحشية
عالم من الحركة والصوت والرائحة هو سوق مناوس المركزي القريبة من الميناء. انه تتفجر بالألوان الحارة والمتنوعة لمنتجات الغابة من نبات وطيور وحيوان. فيه تجد ثمار الغابة جنبا الى جنب مع جذور نباتاتها الغريبة وأوراقها المتدلية من السقوف والمكومة في الأطباق المرصوصة امام المحلات، والأقفاص التي تضم طيورا متنوعة الألوان، وحيوانات غريبة الأشكال بالاضافة الى مختلف انواع الأسماك المصفوفة والمعروضة. وفي الميناء ترى القوارب الخشبية الخارجة من احشاء الغابة المحملة بعناقيد الموز الضخمة خضراء اللون وثمار البابايا والمانجو الخضراء والصفراء وانوع من الثمار لن تشاهدها الا هناك وهي تفرغ حمولتها الى السفن الكبيرة التي ستأخذها الى انحاء العالم. اذ ان موقع مناوس المهم جعله من اهم موانئ الأمازون، فهي واقعة في ملتقى رافدين مهمين للأمازون هما ريو نيغرو وسوليموس بحيث يسهل جلب المنتجات من انحاء شاسعة من الغابة اليها
خيرات الغابة من فواكه وخضار في سوق مناوس المركزي
وانت تتجول في شوارع مناوس واحيائها تشعر ان ولادة هذه المدينة ونموها لم يكونا طبيعيين. انها أشبه بولادة جنين قبل الأوان، ومن ثم نموه على العقاقير المقوية التي حافظت على صحته لفترة من الزمن بعدها انتكس ولم يعد الى نموه الطبيعي. فالمدينة تدير ظهرها الى الماضي، او بالأحرى ان الماضي المزدهر ادار ظهره لها منذ أكثر من ثلاثة ارباع القرن. فازدهار المدينة قام اساساً على تجارة المطاط بداية القرن الماضي.
كانت مزارع هذه الشجرة قد اكتشفت من قبل هنود اوماغو، وجلبت انتباه المغامرين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، وكان اختراع السيارة، ومن ثم اختراع الاطار المنفوخ من قبل "دنلوب" في العام 1888 هما نقطة التحول الأساسية في تاريخ المدينة، بل المنطقة كلها اذ هرع المغامرون وتجار الفرص الى هناك وبدأوا في اقامة مستعمرات المطاط، فارتفع سعر هذه المادة بشكل خيالي ومعه ارتفع انتاجها من 156 طن متري عام 1830 الى 21 الف طن متري في .1897 . وحتى اليوم وانت تتجول بالقارب في الرافد الصغير من نهر ريو نيغرو اوسوليموس تشاهد اثار الجروح التي احدثها جامعو المطاط في جذوع الأشجار العملاقة لاستحلابها
نهاية عصر المطاط
غير ان ايام المطاط الذهبية سرعان ما انقضت. فقد ظهرت مناطق اخرى للمطاط تنافس الأمازون والذي كسر احتكار البرازيل لتجارة هذه المادة، ومن قضى على الأهمية التجارية لمناوس هو رجل انجليزي يدعى هنري ويكهام الذي اشترى في العام 1876 سبعين ألف بذرة من بذور شجرة المطاط وبسعر لا يتجاوز الألف جنيه ونجح في تهريبها من ميناء بيلام على المحيط الأطلسي غافلا موظفي الجمارك ومدعيا انها نماذج لنباتات نادة يأخذها الى الملكة فيكتوريا. وفي لندن خضعت البذور الى فحوصات دقيقة في مختبرات حدائق "كيو غاردن" واجريت عليها عمليات تعقيم، ثم ارسلت الى الملايو وزرعت هناك، وبذلك قضى ويكهام على احتكار البرازيل لتجارة المطاط بعد ان ظهر البديل كمنتجة ومصدرة منافسة للأسواق العالمية.
اما اليوم فان مناوس تعيش على مساعدات الحكومة الفيدرالية، وباستثناء تجميع منتجات الغابة ومن ثم تصديرها، فليس فيها فعاليات اقتصادية مهمة سوى كونها مدينة حرة من الرسوم الجمركية، وبالتالي فانها، استقطبت بعض الصناعات التجميعية واهمها المنتجات الالكترونية اليابانية التي تشغل الأيدي العاملة الرخيصة وخاصة من هنود الأمازون الذين تلاحظ تجمعاتهم السكنية البائسة في اطراف;.المدينة، وهي احياء تشبه احياء الفافيلاس في ريو دي جانيرو، بل انها اكثر فقراً وتعاسة من تلك
قال فارغو اننا سنلتقي غداً في الساعة السابعة صباحاً في المقهى القريب من الجسر في الميناء حيث ينتظرنا قاربنا ليأخذنا الى داخل الغابة.