(3) رحلتي الى غابات الأمازون
“الدخول إلى مملكة ”المحاربات الأمازونيات
“مغامر يعثر، بدلاً من الذهب، على “أسطورة ذهبية
وآخر "تبخر" في الغابة وإختفى أثره منذ 1925
وَقّتُ سفري الى غابات الأمازون بعد يوم من وصول وفد هنود الغابة الى "ندوة الأرض" الردیفة في فلامنجو بارك في ريو دي جانيرو. حجزت في فندق "تروبيكال هوتيل" خارج مدينة مناوس عاصمة ولاية الأمازون. قالوا لي انه من افخم الفنادق في البرازيل، فاستغربت وجود مثل هذا المكان الباذخ وسط الغابة، واعتبرت هذا الوصف فيه بعض المبالغة، لكنني تذكرت ان البرازيل هي بلد المتناقضات. فيها يحدث كل شيء بالصدفة أو الخطأ. فهي اكتشفت خطأً ، واستضافت، في خطأ تاريخي، عرش الامبراطور الذي احتلها، ثم تحولت نفسها الى امبراطورية بالصدفة، واضحت جمهورية خطأ في نظر الخصوم وصدفة عند أهلها. في كل بلاد العالم يحكم السياسيون ويكسب رجال الأعمال. في البرازيل يحكم رجال الأعمال ويخسر السياسيون. في جميع انحاء العالم انقلابات العسكر دموية. في البرازيل يقفز الجنرالات الى السلطة لمنع إراقة الدماء
فضيحة أمزونية
في فلامنجو بارك كانت تنتظرني فضيحة امزونية. كان وفد هنود الأمازون هناك، غير ان الذي استقطب اهتمام الحاضرين هو زعيمهم ماريو غورونا رئيس قبيلة زافانتس وعضو البرلمان السابق. كان محاطاً بحراسة مشددة، رجل ضخم الجثة اشبه بملاكم من الوزن الثقيل، ومنذ البداية أبلغ المشرفون على الندوة الحاضرين ان التصوير والحديث الصحافي ممنوعان معه. كان الوجوم يسيطر على الجميع باستثنائه هو، إذ كان مسترخياً وطبيعياً جداً. وما استرعى انتباهي هو جلد نمر مرقط معلق على الحائط الذي يجلس الى جانبه الزعيم غورونا الذي قتله قرب منزله في ولاية ماتو غروسو الغربية. وكانت هنالك قطعة ورق مثبتة الى جانب الجلد هو ثمنه. إذن جلد هذا الحيوان النادر معروض للبيع بستمائة دولار، والذي جلبه من الغابة لبيعه في مؤتمر البيئة هو زعيم من هنود الأمازون!
، في البداية امتنع غورونا عن التحدث الى الصحافيين وبغرور واضح. لكن يبدو ان مرافقيه أقنعوه أخيراً بضرورة التحدث الى الحاضرين فقال بلهجة متسائلة ساخرة: أريد ان أعرف لماذا لا يحق لهندي يعيش في وسط الغابة بيع جلد نمر أو حيوان آخر؟ هذا حق طبيعي للهندي، لا أحد يقدر ان يسلبه منه. الهنود يقتلون الحيوانات الوحشية لأنها قوية وشرسة وقد تقتل الناس أو تجرحهم. نحن نستعمل لحوم هذه الحيوانات حتى نعيش. انني اسأل هؤلاء الذين جاءوا هنا لينتقدوني بسبب جلد النمر هذا، ما الذي تريدونه ان أفعل حين أجد نفسي في مواجهة نمر؟ ما الذي على الهندي فعله؟ ان يدع النمر يفترسه حتى يجعل الأجانب سعداء؟ سأقول لكم الحقيقة.. لا أريد بيع هذا الجلد بستمائة دولار، ولكن إذا فعلت فيجب ان لا يكون هذا الأمر مشكلة، انني أقوم بهذا الفعل كعملية احتجاج، وهو احتجاج فعال جداً. ثم أخذ غورونا يصيح بصوت هائج: انني أريد من جميع هؤلاء المهتمين بالبيئة ان يدافعوا عن حياة الانسان لا عن حياة حيوانات الغابة. الانسان أهم من الحيوانات التي يريدونها لا أكثر من كائنات للزينة في منازلهم الفخمة. هؤلاء الذين حضروا الى هنا من انحاء العالم لا يحملون أي احساس صادق تجاه الكرة الأرضية. انهم لا يحبون الكائنات الحية بل يحبون المال فقط، ولهذا لا حق لهم في لومي. انني أمام هؤلاء أدافع عن حقوق الانسان لا حقوق الافاعي. نحن لسنا أكثر من سينما ومهرجين بالنسبة للعالم المتقدم، لكن هذا لا يعنينا شيئاً. نحن لا نريد ان نعيش مثل حيوانات في الغابة، بل نريد حياة مرفهة، نريد منازل ورواتب. هذا المؤتمر الذي تحضرونه اليوم لن يحقق شيئاً، انه مجرد كرنفال ونحن مهرجوه. انتهى اللقاء وانسحب الوفد الهندي، وظل الحاضرون مذهولين لبعض الوقت، ثم تفرقنا كالى الحدث الذي يود متابعته.
دفاع منطقي
كنت أفكر في المنطق الذي استعمله غورونا للدفاع عن نفسه أمام منتقديه، كان الى حد ما صحيحاً في موقفه. هنود الأمازون عاشوا لقرون طويلة في الغابة، هي مأواهم وملبسهم ومصدر غذائهم. هي البيئة التي يولدون ويعيشون ويموتون فيها، فإذا كنا نطالبهم ان يكفوا عن قتل حيوانات الغابة وجني ثمارها واستعمال اخشابها فكيف نتوقع منهم ان يستمروا في حياتهم؟ وما الذي نريد من الأمازوني ان يفعل إذا وجد نفسه وجهاً لوجه مع نمر مفترس في اعماق الغابة، وحياته متوقفة على سرعة تصرفه؟ إما ان يبادر الى قتل الحيوان بسرعة أو يقضي نحبه بين انيابه وأظافره. ثم إذا كان قد قتل الحيوان فما الضير في بيع جلده؟ اننا بهذا نطالب هنود الأمازون ان يكونوا مجرد موضوع بحث ودراسة لعلماء الانثربولوجيا والبيئة ونتناسى كلياً انهم كائنات انسانية لهم مطاليبهم المعيشية، وان هذه الغابة، التي ندعي اننا جئنا الى هنا لنتفق على مجمل خطوات للحفاظ عليها، قد احتضنتهم وأمنت لهم حياتهم منذ عصور وعصور دون ان تختفي أو حتى تفقد شيئاً من وجودها معهم. لكن الذي بدأ في إحداث الجروح الغائرة فيها وتدميرها شيئاً فشيئاً والقضاء على نباتها وحيوانها وانسانها هم نحن، القادمون من عالم المدنية بكل مفاهيمنا وآلاتنا وأدواتنا المعقدة. فإذا كان الهندي في غابات الامازون يقتل نمراً أو قرداً أو طائراً فإنما يمارس جزءاً من سلوكه اليومي الذي توارثه منذ ملايين السنين. وهو يقتل حتى يعيش، بينما نحن الذين نستهجن هذا السلوك نمارس قتل حيوان الغابة وتدمير نباتها اما ترفيهاً أو لمنافع مادية بحتة.
تركت الموضوع الى المساء، حيث سألتقي بعائلة جورجي كلاشي على مائدة العشاء، وأخذت طريقي الى محطة الاوتوبيس للذهاب الى مقر المؤتمر الرسمي في ريو سنترو لإعداد تقرير اليوم لصحيفتي.
عشاء "فوجوادا" مع عائلة كلاشي
في المساء ذهبت الى منزل كلاشي في ساحل كوباكابانا. كان على مائدة العشاء جورجي وزوجته لوردا وابنتهما اليزابيث. قالت السيدة لوردا انها طبخت لي "فوجوادا" الأكلة الوطنية البرازيلية، ولأن المطاعم في ريو دي جانيرو لا تقدم هذه الأكلة إلا في يوم السبت، ونحن الآن في يوم الاثنين، إذن قررت ان تطعمني الأكلة البرازيلية المشهورة قبل ان أذهب الى الأمازون. فعلقت اليزابيث بلغة انجليزية ضعيفة وهي تضحك: "ربما تظن والدتي انك لن تعود حياً من الأمازون! وأضافت وهي ما تزال تضحك: "عليك ان تحذر من الحيوانات المفترسة هناك، خاصة الأفاعي، فقد تفاجأ وانت تفطر صباحاً ان تنزل عليك أفعى سامة من الشجرة". ثم اردفت: "انني أمزح طبعاً". قلت لها ان الصدفة هي التي هندست حياتي دائماً. فإذا كانت الصدفة قد هيأت لي موتاً بلدغة ثعبان سام في الأمازون، فليس في مقدوري فعل شيء لتغيير مجرى القدر. فعلق والدها بالعربية: "توكل على الله.. فلن يحدث شيء". فسألتني اليزابيث ماذا قال والدها. قلت لها انه يطمئنني بأنني سأعود سالماً. قالت ”انني اتمنى لك ذلك أيضاً“.
شرحت السيدة لوردا ان "فوجوادا" هي الأكلة التي يأكلها معظم البرازيليين كل يوم سبت. وهي تطبخ من حبات الفاصوليا السوداء المجففة مع قطع لحم البقر. وعادة ما تنقع الفاصوليا مع البصل والثوم وأوراق الغار قبل الطبخ، ثم توضع مع اللحم على النار لعدة ساعات. ويفضل ان تطبخ في اناء فخاري. ويضاف على المزيج مقدار من التوابل المختلفة حسب الرغبة وشرائح من البرتقال، ويقدم على المائدة مع الرز.
في الصباح التالي، بعد الفطور، أخذت حقيبة صغيرة وضعت فيها الضروري من الملابس وخريطة الأمازون وحملت آلة التصوير والمنظار، وذهبت الى المطار لأخذ الطائرة الى مناوس عاصمة مقاطعة الأمازون
فوق الغابة الوحشية
المسافة بين ريو دي جانيرو ومناوس أربع ساعات طيراناً متواصلاً. وهي مسافة تشكل جزءاً من هذا البلد الشاسع. كنت أحدق من نافذة طائرة "دي سي ـ 10" الى الأسفل، الى الخضرة الداكنة الممتدة الى اللانهاية تخترقها انهار ملتوية مثل افاع ضخمة في وسط الغابة، انها تجربة فريدة، ان تطير ساعات وساعات وامتداد الخضرة تحتك لا ينتهي وتلافيف الانهار تتشكل بأشكال مختلفة بين لحظة وأخرى وكأنها نقوش منسوجة على بساط شاسع أخضر. ليس هنالك من طريق ولا مدينة سوى الخضرة والأنهار التي يفوق عددها الألف. ومع الرعشة الخفيفة التي انتابتني وانا أجد نفسي على طائرة "دي سي ـ 10” واحساسي بأنني فوق أكثر الغابات شساعة ووحشية على الكرة الأرضية، واستعادتي لمزاح اليزابيث عن الأفاعي السامة التي تنزلق عليك وانت منشغل بفطورك، استرخيت على مقعدي وبدأت أفكر في الأمازون، الأسطورة الخضراء.
ما الذي أحس به المغامر الاسباني فرانسيسكو دي أوريلانا حين اقترب من حافة الغابة في القرن السادس عشر؟ يقيناً ان احساسي المتواضع جزء من احساسه هو الذي قطف الثمرة الأولى من تلك الغابة العذراء. احساس الرجل وهو يتواجه مع غموض عروسته في الليلة الأولى، لم يكن المغامر الاسباني يبحث عن الجوهر هناك، كان يبحث عن الذهب. ولم تمنحه الغابة تلك المعدن الأصفر، بل منحته عوضاً عنه أسطورتها الذهبية.
مملكة النساء المحاربات
كان طموح أوريلانا هو الوصول الى "مملكة مانوا" التي يحكمها ملك يغطي جسده العاري يومياً بغبار الذهب، وقد أطلق عليه الاسبانيون "ألدورادو" أي الرجل الذهبي. وسواء أكانت مملكة مانوا من نسج الاسطورة أو الواقع فقد ملكت عقل هذا الاسباني فانطلق من الاكوادور عام 1540 نحو الأمازون، ولم يخرج من اعماق الغابة إلا بعد عام، لكن ليس مغطى بغبار الذهب بل بالجروح ولسعات الحشرات وبأسطورة ذهبية.
لكن، بالرغم من المصاعب التي عاناها اوريلانا فإنه أحب هنود الأمازون وعشق منهم أكثر قبيلة محاربة تدعى "النساء اللواتي يعشن وحدهن"، ثم أطلق على هاته النسوة المحاربات تسمية "الأمازونيات"، وهي اشبه بالأسطورة الاغريقية عن المحاربات اللواتي قطعن اثداءهن اليمنى حتى يقدرن على استعمال القوس والسهم. لكن الحظ لم يساعد أوريلانا في القبض على إحدى هاته الأمازونيات بل قبض بدلاً منها على رجل هندي يدعى كوينكو الذي قدم وصفاً لمملكة المحاربات الأمازونيات. وحسب رواية كوينكو التي أوردها أوريلانا في تقريره بعد عودته الى اسبانيا عام 1543 ان مملكة هاته النسوة المحاربات قائمة قرب نهر ناموندا، وانهن بيضاوات وطويلات القامة ويضفرن شعرهن على شكل جدائل يلففنها حول رؤوسهن، وهن قويات الأجسام لا يغطي اجسادهن شيء سوى قطع من الجلود فوق اعضائهن الحساسة، وكل واحدة منهن تعادل عشرة رجال في قوتها واستعمال سلاحها ويعشن في بيوت مبنية من الحجر ومسقوقه بالقش. والقرية محاطة بجدران حجرية عالية. اما بقية الهنود فيعيشون في قرى اخرى مجاورة لكنهم يخدمون هاته النسوة المحاربات، ومرة واحدة في العام يقمن مهرجانً يدعون اليه الشباب من القبائل الأخرى ليقضوا معهن ليلة واحدة، ثم يعاد هؤلاء الى قبائلهم في اليوم التالي. وثمار هذه الليلة من الأطفال الذكور الذين يولدون بعد ذلك يرجعنهم الى قبائل ابائهم، اما الاناث من المولودين فيحتفظن بهن ويربيهن خلف اسوارهن ليجعلنهن محاربات مثلهن.
البحث عن المدينة المفقودة
رواية كوينكو هذه قريبة من الميثولوجيا الاغريقية عن النساء المحاربات، لكن قد.. قد تكون صحيحة ايضا. فليس الغموض الكائن خلف اسوار قرية هاته النسوة المحاربات الا جزءاً من غموض الأمازون. فلماذا نستبعد ان يكون كوينكو هذا قد دعي في عام ما الى حفل هاته النساء الشجاعات وقضى تلك الليلة الساحرة مع احداهن ثم طرد في الصباح الى حيث قبيلته بعد ان منحهن محاربة اخرى؟ أليس الغموض هو قلب الغابة؟
استحوذت رواية اوريلانا على عقول وقلوب الكثيرين من المغامرين، حتى انها نفسها تحولت الى اسطورة فتنت مغامراً آخر بعد قرنين من الزمن، هو البرتغالي فرانسيسكو رابوسو. اذ اورد في تقريره عام ١٧٥٤، بعد تيهان طويل في احشاء الغابة، انه عثر على بقايا مدينة مبنية من الصخور تشهد على عصر متقدم، وعلى حضارة مجهولة. ومن جملة ما عثر عليه هو ومرافقوه شوارع مبلطة بالحجر وقصور مزخرفة اشبه بتلك التي تعود الى حضارة هنود الأنكا.
ويستمر رابوسو في وصف ما شاهده ويقول انهم دخلوا خائفين عبر بوابة ضخمة ليجدوا انفسهم بين انقاض مدينة بعضها ما يزال يحتفظ بكيانه واجزاء اخرى دمرت تدميراً بفعل هزة ارضية. ثم يقدم وصفا دقيقا للمباني والأعمدة والنقوش التي فيها، واطنان من فضلات الخفافيش ورسوم ملونة على الجدران وحفنة من نقود ذهبية..
لكن لا احد استطاع ان يصل الى هذه المدينة القديمة التي وصفها رابوسو بالرغم من انها ظلت تلهب خيال المؤرخين والمغامرين، إلى ان رضخ مغامر بريطاني هو الكولونيل برسي فاوست لأهوائه فقرر ان يعثر عليها. وكان فاوست بحكم عمله ضابطاً في الجيش، تنقل كثيرا في اسيا واميركا اللاتينية، فعمل في هونج كونج وسيلان وبوليفيا وبيرو والبرازيل، وكان مهووساً بالحضارات القديمة. فتوغل في الأمازون عميقاً، ويبدو انه عثر على بقايا مدينة قديمة، اذ كتب في العام ١٩٢٥ واصفا ما شاهده بأنه من المؤكد آثار مثيرة للدهشة لمدن قديمة، آثار اقدم من الآثار المصرية، ما تزال قائمة في أعماق منطقة ماتو غروسو في الأمازون الغربية.
كان فاوست في الستين من عمره حين بدأ رحلته الجريئة الى "المدينة المفقودة" منطلقا من كويبا عاصمة ولاية ماتا غروسو في 20 ابريل (نيسان) 1925 يرافقه ابنه جاك وعدد من الأدلاء الهنود. وكان يبعث بتقاريره عما يصادفه الى صحيفة اميركية. وفجأة اختفى فاوست ومن معه بعد ان بعث آخر رسالة له يوم 30 مايو (أيار) مع احد ادلائه من الهنود الى ابنه الصغير فيبيرو, ولا توضح الرسالة لنا شيئا كثيرا عن المدينة المفقودة.. هل عثر عليها ام لا؟ بعد هذه الرسالة الغامضة اختفى فاوست في أحشاء الغابة، ولم يعثر له على اثر حتى اليوم.
الهبوط وسط الغابة
اخرجني من مدينة فاوست الضائعة صوت المضيفة وهي تطلب منا شد حزام الأمان لاننا سنهبط قريبا في مطار مناوس. حدقت من النافذة، كانت الخضرة التي بدأت منذ أربع ساعات ما تزال ممتدة الى نهاية الافق، وقد بدت أكثر دكنة وكثافة لا يجرح نسيجها شيء سوى الأنهار الملتوية في احشائها، التي تضم بين ضفافها خمس مياه العالم العذبة، وتمنح الغابة لكائنات الكرة الأرضية الحية من انسان وحيوان ونبات ثلث الأوكسجين الذي تحتاجه لحياتها.
مع مرور الدقائق بدأت الغابة ترتفع قليلا قليلا، وأخذت تفاصيلها من ظلال وضياء تبرز اكثر فاكثر، حتى أضحت في مستوى نافذة الطائرة وفجأة غطسنا في الغابة حين انتابتنا موجة من الرعشة مع اهتزاز الطائرة التي لامست عجلاتها ارض المطار واخذت سرعتها تخف شيئا فشيئا حتى بدأت تسير ببطء قبل ان تتوقف امام النفق الذي يقودنا الى قاعة المطار.
باستثناء ما هو في المخيلة عن الأمازون، لا توحي قاعة المطار انك وسط الغابة. قاعة فسيحة نظيفة مكيفة الهواء، محلات زجاجية انيقة مرتبة بذوق رفيع تتحرك فيها فتيات خلاسيات جميلات. تحتوي كل شيء من مصانع اوروبا واميركا وآسيا من عطور باريس الباذخة الى ازياء لندن وروما الفارهة، من تكنولوجيا اليابان المتقدمة، الى "الهمبرغر" الاميركي البائس. والبرازيل كانت هناك ايضاً باحجار الخواتم الزاهية الألوان والطيور والحيوانات المنحوتة من الصخور الملونة. اما الأمازون فكانت فولكلوراً بين اهلها وفي داخل بيتها. كانت على بطاقات البريد وكتب السياحة، وبضعة نماذج مصغرة رخيصة من رماح الهنود ودروعهم.. سلال منسوجة من ألياف الغابة، انياب بعض الحيوانات وأفعى محنطة وطيور استوائية من المطاط الملون المنفوخ.
في قاعة المطار تستقبلك الأمازون بوجه مزيف كأنها تستحي من وجهها الحقيقي وهي تقف وسط كل هذه المعروضات المجلوبة من انحاء العالم. تستحي من أنها منحت هذه المساحة الضئيلة لتكشف عن مفاتنها بينما كل ما هو غريب وشاذ يحتل ارجاء بيتها.
هل أخطأت الطريق.. ونزلت في مطار اوروبي؟ كلا. تيقنت انني في وسط غابات الأمازون مع اول خطوة خطوتها الى خارج قاعة المطار، اذ استقبلتني موجة من الهواء الحار الرطب، ومع أول شهيق احسست بثقل الرطوبة في صدري ولزوجتها على بشرتي. كانت السماء زرقاء صافية والشمس باهرة الضوء. وكانت الغابة على بعد أمتار قليلة أسمع حفيف اشجارها وزقزقة طيورها. تذكرت افاعي اليزابيث ونمر غورونا فاسرعت خطواتي نحو الأوتوبيس الذي سيأخذنا الى "تروبيكال هوتيل".