(2) رحلتي الى غابات الأمازون

ريو دي جانيرو .. زهرة اميركا اللاتينية

Make it stand out

.

تمثال السيد المسيح على جبل كوركوفادو المطل على ريو دي جانيرو

 

إذا كان البرازيليون ما يزالون يبحثون عن جواب لسؤالهم التقليدي: "أي الشواطئ البرازيلية أجمل؟" فإن الكاريوكا (سكان ريو الأصليون) هم الآخرون يتساءلون: أية بقعة أجمل في مدينتهم؟ أي الجبال أروع وأنبل: كوركوفادو أم بودي اتشوكار؟ أي النساء أعذب: البيض، السمر، السود، الخلاسيات، أم ذوات البشرات التي تحمل ظلال كل هذه الألوان؟ كل شيء جميل وغريب ومثير للدهشة والفضول والرهبة في ريو دي جانيرو.

 من المطار الى ساحل كوبا كابانا حيث منطقة الفنادق الرئيسة، ترى ان كل ما سمعته وقرأته عن هذه المدينة هو لغو لا حقيقة، لأن هذه المدينة هي ما تراه وتلمسه وتشمه. وأنا أحدق من نافذة الأوتوبيس كنت أتساءل مع نفسي: أية مدينة تضم كل تضاريس الأرض مثل هذه المدينة؟ من الجبال المعتمة الخضرة التي تغلف قممها الغيوم الى زرقة السماء التي تعكسها مرآة المحيط. من أدغال الأمازون النابتة على أكتاف المدينة والمطرزة بالطيور والفراشات الملونة والزهور البرية الجريئة الحمرة والصفرة الى قلب المدينة العتيقة وسوق "روا الفينديكو" التي شهدت مجد التجار العرب المهاجرين من بلاد الشام في بداية القرن الماضي، أولئك الذين خلفوا أبناءهم وأحفادهم في قمة الجهاز الحاكم وفي قيادة الحركة الاقتصادية الآن. من حي ليبلون الباذخ على خليج ايبانيما وحدائق "الفلامنجو" المفروشة على خليج غوانابارا الى حي "روسينا" البائس أكبر أحياء اميركا اللاتينية تعاسة. أية مدينة على وجه الأرض لها هذا الجمال الباذخ وهذا الفقر المدقع أيضاً؟

كان الشيء الوحيد الذي كنت أتوق اليه حين أنزلني الأوتوبيس الذي جلبني من مطار المدينة أمام فندق "غراند كندا هوتيل" في ساحل كوبا كابانا هو أخذ حمام بارد والنوم لساعات. كنت منهكاً بعد خمس عشرة ساعة من الطيران المتواصل من لندن الى ريو دي جانيرو، لم أنم يهااطلاقاً. قرأت خلالها قصاصات عديدة اقتطعتها من صحف مختلفة عن البيئة والمؤتمر. وقرأت ايضا كتاباً صغيراً عن نباتات وحيوانات الأمازون

في الفندق نمت بضع ساعات، لكن مهمتين كانتا تنتظران الانجاز هذا اليوم. اولاهما الحصول على بطاقة الهوية لدخول ندوة الأرض لمنظمات البيئة الأهلية، والثانية انهاء اجراءات الحصول على هوية مؤتمر الأمم المتحدة الرسمي للبيئة. انهيت الأولى ولم يسعفني الوقت لإكمال الثانية. فأخذت طريقي الى الساحل وجلست في مقهى جميل قبالة المحيط. كانت الكراسي بيضاء ناصعة، وكانت المظلات فوق الموائد زاهية الألوان وحارة. كانت فرقة جوالة من الفتيان والفتيات تعزف وتغني ألحاناً ذات ايقاع طرب بطبولهم الأفريقية وآلات موسيقية اخرى بعضها لم أرها فية.كانت تمر من امامي وجوه بيضاء وأخرى صفراء ثم سمراء وسوداء. وجوه ذات سحنة اوروبية، واخرى ذات اميركية لاتينية، ثم خلاسية وسوداء. بشرات تحمل كل ألوان الطبيعة. كنت اتساءل كيف يضم بلد ما كل هذه الأعراق والأجناس ولا تحدث فيه مجازر عنصرية؟حياتي. طلبت مشروباً بارداً.. وسرحت في الوجوه الجميلة

في ضيافة عائلة برازيلية

ي الساعة الواحدة من بعد ظهر اليوم التالي اتصلت بي موظفة الاستقبال في الفندق قائلة ان سيدة تنتظرني في الأسفل. كنت في غرفتي أكتب أول تقرير عن قمة الأرض لصحيفتي. نزلت، فكانت والدة صديقي اليكس جاءت لأخذي الى الغداء. كنت قد اتصلت بهم يوم أمس وأخبرتهم بمجيئي. فاتفقنا أن يمر الوالدان عليّ في الفندق ليأخذني معهما. خمنت ان السيدة لوردا في أواخر ستيناتها، مفرطة الأناقة. تنم هيئتها عن ثراء باذخ. رحبت بي باللغة الانجليزية وقالت ان اليكس اتصل بهم يوم أمس ايضا وسأل عنك وأخبرناه بأننا سنتغدى اليوم معاً في نادي "كلوبي دي كايزرا". وقالت ان ابنه يودني جداً. قلت لها انني أوده ايضا فهو صديق حميم لي منذ سنوات. كان زوجها ينتظرنا في السيارة أمام الفندق.دحتى عربيته فهو لا يتحدث بها كثيراً لأن لا أحد في العائلة يعرفها. وقالا ان لهما بنتا أصغر من اليكس تدعى اليزابيث ويدعونها (بتي) وهي مهندسة معمارية وتريد ان تلتقي بي لتعرف أخبار شقيقها فهي تحبه جداً. قلت سأكون سعيداً بلقائها. وقالا ان لهما ابناً أكبر من اليكس وهو محام ناجح. سألت جورجي عن سبب اختياره للبرازيل موطناً له. كنت اعرف القصة من اليكس (راجع الحلقة الأولى)، لكنني احببت ان اسمعها منه ايضا. قال ان خاله كان قد ترك انطاكية واستقر في ريو دي جانيرو منذ العام 1920، وكان صاحب محل تجاري. اما هو فقد وصل بعده بستة اعوام، وكان عمره آنذاك خمسة عشر عاما. فعمل اول الأمر مع خاله ثم فتح محلاً خاصاً به بعد خمسة أعوام. وجلب والديه واخوته من انطاكية. سألته فيما اذا كان ما يزال يحس بأنه سوري وعربي. أجاب: كلا. انه يحترم أصله لكنه الآن برازيلي وهو يحب بلده هذا فهو الذي فتح له ابواب الرزق والنجاح ووهب له كل شيء، ثم التفت الى زوجته ضاحكا وربت على كتفها قائلاً: وهبني هذه المرأة ايضا. قلت له: ان زوجتك جميلة ورائعة. ضحك وقال لها شيئا بالبرتغالية، فالتفتت هي اليّ قائلة: شكراً انك مهذب جداً. سألتها هل هي من ريو، أجابت انها من مدينة اخرى. والدها برازيلي وأمها برتغالية وقد التقت بجورجي حين كانت العائلة في عطلة وتعلقا ببعضهما. وقال ان والدته لم تكن تودها لأنها غير عربية، أي اجنبية في نظرها. لكنها اردفت قائلة انها كانت امرأة طيبة، اقتنعت بي كزوجة لإبنها بعد ان أنجبت له ثلاثة اطفال، وضحكت.

السيد جورجي وزوجته السيدة لوردا اللذان اعتبراني من العائلة

غداء في نادي النخبة

 قال جورجي ان نادي "كلوبي دي كايزرا"، الذي سنتغدى فيه، هو ناد خاص لشريحة اجتماعية معينة. وأفهماني بطريقة لبقة ان اعضاءه من الأثرياء ومن رجالات الطبقة الحاكمة. وان رسم الانتساب اليه هو عشرون ألف دولار أميركي يدفع مرة واحدة ثم يدفع العضو بعد ذلك اشتراكات شهرية مقابل الخدمات التي يقدمها النادي.

كان نادي “كلوبي دي كايزرا” فخما وأنيقا جداً. مجموعة مبان من طابق واحد وسط حدائق فسيحة محاطة ببحيرة واسعة لهواة التجديف والزوارق الشراعية من اعضائه. وحتى تنتقل من الشارع الى النادي لا بد من اجتياز ممر مائي بعبارة كهربائية مكوكية. كان يوم أحد، وكانت الصالة الرئيسية شبه ممتلئة، وكان طعام الغداء معروضاً على موائد كبيرة، يذهب كل شخص ليأخذ ما يرغب فيه. عرفني جورجي وزوجته على عدد من العوائل البرازيلية وأخرى شامية، كما عرفاني على جنرال في الجيش قالا انه سيفيدني كثيراً في مشروعي لأنه عضو في لجنة الدفاع عن هنود الأمازون. سألني الرجل عن صحيفتي وفيما اذا كانت تصل الى البرازيل، ثم عن سبب اهتمامي بالأمازون. بعد الغداء خرجنا الى الحديقة وتحدثنا فيما نرتشف القهوة عن مشاكل البرازيل السياسية والاقتصادية

.اخبرتهم انني اتابع من خلال الصحف الانجليزية اخبار الفساد والارتشاء، وانني قرأت في الطبعة الانجليزية لصحيفة "جورنال دو برازيل" ان لجنة التحريات في الكونغرس البرازيلي قد طلبت من عشرات السياسيين تقديم شهاداتهم حول هذه الاتهامات. وحين طرحت هذه الأمور عليهم قال الجنرال ان هذه الاتهامات هو جزء من محاولة لزعزعة الثقة بالرئيس الحالي، والا لماذا اختاروا هذا الوقت بالذات لتفجير قنبلتهم الموقوتة قلت له: لكن هل يعني هذا ان ما يجري ما هو الا مؤامرة ضد الرئيس وحكومته، وان هذه الاتهامات، خاصة وهي تأتي من شقيق الرئيس، لا أساس لها من الصحةهذه، حيث سيحضر أكثر من مائة رئيس دولة وحكومة الى البرازيل لقمة الأرض؟

اجاب ان الخارطة السياسية للبرازيل معقدة جداً ولا يمكن قراءتها بهذه البساطة. ثم سألني: هل ان هؤلاء اكتشفوا الآن فقط وجود الفساد في البرازيل؟ قلت له: ألا تتفق معي ان الفساد الذي يعم البرازيل، بل اميركا اللاتينية كلها هو من مخلفات حكم الجنرالات؟ فأجاب بحدة: كلا. لا اتفق معك اطلاقا. هؤلاء الجنرالات خدموا البلد كثيراً. المشكلة انكم تتذكرون نموذجا سيئا من حكم الجنرالات ولكنكم تتناسون عشراتة.النماذج الجيدة!تركنا النادي في حدود الخامسة مساء. طلبت من مضيفي ايصالي الى فندق "غلوريا" المطل على حدائق "الفلامنجخذت طريقي الى ساحل غوانابارا الذي منه اكتشفوا ريو دي جانيرو خطأ 

فافيلا على سفح جبل بودي اتشوكار

الفافيلاس .. عشوائيات ريو

على خد ريو الناصع هناك الـ "فافيلاس"، الأحياء البائسة التي عشوائيات ريو دي جانيرو. مدن كاملة دون خدمات، تحتل سفوح الجبال المطلة على المحيط، تعشش في دروبها القذرة الجريمة والمخدرات وكل ما يمت الى العالم السفلي بصلة، لكنها ايضاً مصدر الأيدي العاملة الرخيصة للأحياء والأسواق الثرية. ترى اضواءها في الليل مثل لآلئ تزهو بالبريق، وتكتشف في النهار انها أكواخ بائسة تعكس تعاسة قاطنيها وبؤسهم حتى دون أن تراهم.

يعود أصل سكان الفافيلاس الى القرن التاسع عشر، اذ كان أجدادهم جنوداً للجمهورية الفتية، قضوا على انتفاضة للملكيين ثم وجدوا أنفسهم دون قضية ودون عمل ومأوى فبنوا أكواخهم على سفح تل سموه "فافيلا" نسبة الى زهور برية نابتة هناك، الا أن مشكلة الأبناء والأحفاد من بعدهم أكثر تعقيداً وتشابكاً. ففي العقدين بين 1920 و1940 حين كانت البرازيل سيدة أسواق العالم في البن والكاكاو والمطاط وأنواع الفواكه، هجر الكثيرون من سكان المدن والتحقوا بالمزارع يحرثون ويحصدون ويتقاسمون ثراء بلدهم، لكن لا دورة التاريخ ولا عجلة الاقتصاد تدوران دائماً في اتجاه واحد. فهبطت الأسعار وبارت التجارة بعد ان غرقت الأسواق بالبضائع بسبب الافراط في الانتاج والتصدير، فلفظت الحقول المزارعين وقفلوا راجعين الى حيث أتوا من المدن، ولكن الى أين وقد فقدوا سقوفهم وأعمالهم في حمى اللهاث وراء الربح السريع، ومن يحتضنهم غير أكواخ الفافيلاس البائسة. وكلما تدفقوا اليها كلما توسعت هذه الأحياء وازدادت بؤساً وازدادوا هم عوزاً.   

 

خليج غوانابارا.. من هنا بدأ الإستعمار البرتغالي للبرازيل

difference.

أدرك البرتغاليون اهمية المنطقة التي اكتشفوها فبدأوا في الاستقرار وبناء مرافق الحياة وسبل العيش وادوات الاستغلال، فوضعوا لبنة المدينةاكتشاف ريو دي جانيرو
كان اول شخص وطأت قدماه هذه البقعة هو الرحالة البرتغالي امريكو فيسبوتشيو في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1502 وحين دخلت سفينته الى هذه المياه ظنها اول الأمر انه منبع نهر فسماه "نهر يناير" او ريو دي جانيرو، دون ان يدرك ان ما اكتشفه لم يكن نهراً بل خليجاً شاسعاً يحتل 245 كيلومتراً مربعاً يدعى الى الآن باسمه الهندي القديم (غوانابارا) اي "ذراع البحر". كان هنود التامويو يقطنون حول الخليج آنذاك فلم ينتبهوا الى جرثومة الفناء التي أطلقها فيسبوتشيو في جسد حياتهم البسيطة الملتحمة بالبحر والغابات والجبال، وما كان في مقدورهم قراءة المستقبل حيث سيتحولون الى عبيد في مزارع السكر التي امتدت على طول المحيط من خليجهم حتى الشمال حيث سلفادورعاصمة المستعمرة البرتغالية. كما لم يدركوا ان هذا المغامر البرتغالي ما هو إلا رأس الخيط الذي سيلتف على أعناقهم ويبيدهم او يدفعهم الى أعماق غابات الأمازون. اكتشفو المدينة الجديدة عام 1567 وسموها مدينة ساو سباستياو دي ريو جانيرو، تيمنا باليوم الذي بدأوا فيه بناء المدينة الذي صادف عيد القديس سان سباستيان. ثم استقرت التسمية تدريجيا على المقطع الأخير، وأضحت ريو دي جانيرو موقع اكبر تجمع سكاني في المستعمرة الجديدة، وتحولت الى مركز لتصدير السكر الى اوروبا ثم الذهب الى البرتغال، وتألق نجم المدينة في القرن الثامن عشر اذ اصبحت المركز الرئيسي لتجارة الذهب الذي اكتشفت مناجمه في مقاطعة ميناس جيرايس، واصبحت ريو المركز المالي للبرازيل. وتدريجياة.استولت على كل امتيازات العاصمة سلفادور الى ان اغتصبت هذا اللقب منها بعد ان أفل نجم العاصمة القديمة وفقدت اهميتها التجارية

Make it stand out

ساحل ايبانيما.. من ارقى مناطق ريو دي جانيرو

 
Previous
Previous

(3) رحلتي الى غابات الأمازون

Next
Next

(1) رحلتي الى غابات الأمازون