(1) رحلتي الى غابات الأمازون

من لندن الى ريو دي جانيرو .. السعي وراء حلمي المجنون

شاطئ كوباكبانا في ريو دي جانيرو

كان أول شيء قفز الى ذهني هو غابات الأمازون حين أبلغتني صحيفة "الشرق الأوسط"، التي كنت أعمل فيها، ان أهيئ نفسي للذهاب الى البرازيل لتغطية مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية (قمة الأرض) في ريو دي جانيرو الذي انعقد عام ١٩٩٢ وحضره ملوك ورؤساء العالم. تراصت في مخيلتي ألحان السامبا والشواطئ الساحرة والأجساد البرونزية الفاتنة ثم شذى البن البرازيلي وعروسة اميركا اللاتينية ريو دي جانيرو .. ثم الغابة وغموضها.. وما ينتظرني في أعماقها

وضعت أمام عيني هدفين: الأول، أن لا تكون زيارتي لبلاد الأمازون زيارة سائح يملك المال والوقت ويرغب في العثور على موضوع مشوق ليتحدث عنه الى رفاقه بعد عودته. وهذا لا يتطلب أي تحر أو بحث مسبق عن المكان الذي تذهب اليه أكثر من قراءة كتاب سياحي من تلك الكتيبات التي تراها في أيدي السياح عادة.

ثانيا، كنت مدركاً ان الوقت الذي سيتاح لي، إذا ما أتيح طبعا، لن يكون كافيا للقيام ببحث أكاديمي عن تلك البلاد. فإنجاز مثل هذا البحث أشبه بالقيام بجولة سيراً على الأقدام بهدف اكتشاف قارة شاسعة وفي بضعة أيام. وهو حلم عادة ما يراود أولئك الذين وصلوا الى المراتب العليا من الجنون!

اذاً، لا بد من وضع برنامج عملي لجولة استطلاع في أوسع محيط يمكنني القيام بها. معنى هذا ان استقطع بضعة ايام من مدة المؤتمر لكي أنفذ برنامجي. غير ان هذا صعب التنفيذ عملياً. ففي مؤتمر دولي مثل "قمة الأرض" محظوظ ذلك الصحافي، الذي هو مطالب بتغطية يومية لصحيفته ومرتبط بساعة معينة لإرسال تقريره، مع فارق وقت مدته أربع ساعات لغير صالحه، محظوظ لو وفر وقتاً كافياً لجولة في شاطئ كوباكابانا أو ايبانيما وأن يتوقف مرة او مرتين ليرتشف عصير جوز الهند الطازج أمام كشك خشبي من تلك المتناثرة على رصيف الشاطئ.

ضربة صحافية

كانت مسألة توفير وقت اضافي هناك تثير كدراً خفيفاً لي فقررت ان أفاتح رئيس التحرير بالأمر.كنت متيقناً ان المشروع سيثير اهتمامه: أولاً، لأن مثل هذا التحقيق الميداني عن غابات الأمازون سيكون جديداً على الصحافة العربية. ثانياً: إن نشر سلس تحقيقات عن الأمازون سيكون ضربة صحافية جيدة، لأن المنطقة جزء أساس من اهتمام هذه القمة، وهي تعقد أساساً في تلك البلاد. وحضور القمة في ريو دي جانيرو وعدم رؤية الأمازون هو أشبه بحضور حفلة عرس بينما العريس غائب عنها، كما شبهت زميلة صحافية.تسلحت بهذه الحجج ودخلت مكتبه. شرحت له مشروعي وتمنيت لو انه يوافق على مد بقائي في البرازيل لفترة معقولة لزيارة الغابة. لاحظت الاهتمام على وجهه، وسألني فيما إذا كنت أنوي كتابة موضوع واحد أم سلسلة مواضيع، وهل سأنشرها متزامنة مع القمة أم بعدت عودتي الى لندن. قلت انها ستكون سلسلة من التحقيقات لا أعرف عددها الآن، وان نشرها غير ممكن مع قمة الأرض لالتزامي بإعداد التقرير اليومي عن المؤتمر للصحيفة. ثم ان وجودي في الأمازون سيكون للملاحظة وجمع المعلومات، والعمل عليها واعدادها بعد عودتي من هناك، بالفكرة وتمنى لي النجاح. خرجت من مكتبه وأنا أشعر بأن العقبة الأساسية قد ازيلت من امامي.

عرضت على الدكتور كو طبيب محلتنا الموضوع، فسألني عن موعد سفري. قلت له انه بعد أسبوع. فنظر في وجهي وقال: "هل تعرف أنك تحتاج الى لقاحات لنصف دزينة من الأوبئة، وبعض هذه اللقاحات لا يبدأ مفعولها إلا بعد مرور شهرين على الأقل؟ قلت له: "لتفعل ما يمكن فعله. انني ذاهب الى البرازيل حتى بدون هذه اللقاحات". "انت من أنصار البيئة اذاً" قال ضاحكاً. وأضاف: "انني أغبطك". ثم زرقني بعدد من الإبر، وكسر في فمي كبسولة سال منها سائل مر الطعم في حلقي، ثم كتب وصفة لبعض الحبوب قائلاً انها احداها للوقاية من الملاريا، وان واحدة من الإبر للحمى الصفراء والأخرى للكوليرا والثالثة لكذا.. وكذا.

 بقي شيئان لا بد من انجازهما قبل الرحيل. الأول: البحث، من

خلال علاقاتي في لندن، عن اشخاص في البرازيل يمكن الاتصال بهم حال وصولي هناك للحصول منهم على المعلومات اللازمة والاستعانة بهم في تنفيذ برامجي. ثانيا: الاطلاع على ما يمكن الاطلاع عليه من معلومات عن البرازيل بشكل عام وعن غابات الأمازون خاصة. وأول اسم قفز الى ذهني هو الدكتور أليكس كلاشي، وهو صديق لي منذ سنين، يعمل طبيباً باحثاً في حقل الأعمار والشيخوخة في أحد مستشفيات لندن. كنت قد عرفت من أليكس ان والده سوري الأصل، هاجر من انطاكية عام ١٩٢٦ وهو في السادسة عشرة من عمره الى البرازيل التي سبقه إليها خاله. واستقر ـ وما يزال ـ في ريو دي جانيرو. عمل أول الأمر مع خاله في التجارة، ثم أسس أول محل له وتوفق في مهنته وأضحى مالكاً لمعمل للألبسة الجاهزة يعمل في خدمته أكثر من مائتي عامل قبل ان يتقاعد، وأخبرني انه سيتصل به مساء ليعلمه بقدومي. وأعطاني عنوانه ورقم هاتفه، وقال انه سيعرّفني على أهم شخصيات الجاليتين السورية واللبنانية في ريو دي جانيرو.

الصورة: الدكتور أليكس كلاشي مع والدته السيدة لوردا كلاشي

البحث عن معلومات

استقبلني راولند، وهو شاب ملتح بسيط الهيئة، في مكتبه بالكلية. قلت له انني ذاهب الى تغطية قمة الأرض في ريو دي جانيرو، وانني اخطط ايضا للذهاب الى غابات الأمازون لكتابة سلسلة من التحقيقات عنها لصحيفتي. فضحك قائلا: "انني ذاهب الى القمة ايضا ضمن وفد المنظمات البريطانية غير الحكومية. وسألني فيما إذا حددت يوم سفري، قلت نعم هو يوم 30 مايو. فضحك مرة اخرى وقال: "اذن سنسافر على نفس الطائرة". قلت مع نفسي ان ابتسامة الحظ تكون عريضة احيانا! وسألني ايضا: هل حجزت مكاناً في فندق؟ قلت: لم احجز بعد. فأبدى استغرابه قائلاً ان الألوف من انحاء العالم سيتوافدون الى ريو دي جانيرو وان الفنادق ستكون ممتلئة، ومن الأفضل تدارك الأمر من الآن. ثم زودني باسم ورقم تلفون الفندق الذي حجز هو فيه مع بعض اعضاء الوفد، ونصحني بالاتصال فوراً لحجز غرفة لنفسي. وفعلت.

اعطاني راولند من وقته الكثير، وتحدثنا طويلاً عن قمة الأرض وعن الندوة العالمية الرديفة لها. وكان متحمساً لهذه الأخيرة ويعتبر المشاركين فيها هم الحريصين على سلامة كوكبنا. اما القمة الرسمية فهي ليست أكثر من استعراض علاقات عامة، وحتى مسودات المعاهدات التي ستناقش فيها، هي معاهدات هشة وغير كافية للحد من التلوث البيئي. ثم تحدث عن المصالح الاقتصادية لهذه الدول ونفوذ الشركات الصناعية الكبرى التي تتسبب مصانعها ومعاملها في تلوث البيئة.

شعرت ببعض الحرج لأن الوقت الذي أخذته من راولند طال أكثر من اللازم، لكني لم أكن راغباً في مغادرة مكتبه قبل ان أعرف منه شيئا عن غابات الأمازون. فأجاب انه ليس بالإمكان تقديم معلومات كافية عن منطقة شاسعة هي أقرب الى قارة في جلسة مثل هذه. ثم سألني ماذا أريد ان أعرف بالتحديد عن الأمازون. فأجبته انني أريد ان أعرف كل شيء فأجابني ضاحكا: اذاً التحق بالصف الأول من كليتنا! أدركت من جوابه ان طلبي كان ساذجاً. وشعرت ببعض الحرج، لكنه اخرجني من موقفي حين نصحني بأن اقرأ كتابين على وجه التحديد قبل ذهابي الى تلك المناطق، واعطاني عنوانهما، قائلاً ان فيهما معلومات جيدة لمن يروم، مثلي، الذهاب الى هناك، لا كعالم أحياء، ولا سائح، وانما كصحافي مهتم بالبيئة يرغب في قضاء فترة هناك للملاحظة العامة.

كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية حيث كنت احضر أطروحتي فيها

Credit: LSE

ألتقيت الدكتور فرنانديز في أحد المقاهي في الحي الغربي من لندن، وهو شاب ذو سحنة برونزية وملامح اميركية لاتينية واضحة. وحين شرحت له تفاصيل مشروعي، قال، وبدون حماس، ان الغربيين يمتلكون فكرة رومانسية عن غابات الأمازون وسكانها، وان هذا الحماس يزيد وينخفض تبعا للموضة، بل انهم لا يعرفون ما هي المشكلة الحقيقية التي تتهدد الأمازون. فهم يتصورون ان الخراب الذي يحل بالغابة انما هو نتيجة حرق اجزاء واسعة منها او قطع أشجارها، لكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء التساؤل حول الأسباب الكامنة وراء هذا الفعل. لقد عاش هنود الأمازون هناك منذ مئات الألوف من السنين، وحافظوا على الغابة طول هذه العصور، فلماذا يحدث فجأة ويقدم هؤلاء على تخريب المنطقة التي يعيشون فيها. وأخذ الحماس يتسرب الى حديثه وهو يقول ان مشكلة الأمازون الأساسية تكمن في الفساد السياسي والاقتصادي للأنظمة الحاكمة في اميركا اللاتينية. وان الاهتمام الذي تبديه الدول الغربية تجاه الأمازون والدعوة الى حمايتها بحجة الحفاظ على البيئة، انما هي كلمة حق يراد بها باطل، فهم الذين يلوثون كوكبنا بدخان مصانعهم ونفاياتهم والشره الذي يتميزون به في نمط حياتهم، لا نحن. توقف عن كلامه قليلا ثم سألني: ما هي الأهمية البيئية لغابات الأمازون؟ قلت له: أنت من تلك المنطقة وتسألني عن اهميتها البيئية، أليست هي رئة العالم؟ أجاب ان هذا تقييم مبالغ فيه. تعرف ان النباتات تمتص ثاني أوكسيد الكاربون وتنفث الأوكسجين في النهار، مستعملة الكاربون لإنتاج السكر لغذائها. أما في الليل فالعملية تنعكس، أي أنها تمتص الأوكسجين وتنفث ثاني اوكسيد الكاربون. ومن هنا ترى ان الأوكسجين الذي تطلقه غابات الأمازون في النهار، تستهلكه نفسها في الليل. انها معادلة قائمة منذ الأزل. فأين هو الأوكسجين الفائض الذي توفره الغابة لرئة العالم؟ قلت له: معنى هذا أنك تشك في نتائج مئات الأبحاث التي قام بها علماء الطبيعة والبيئة. ثم انني افهم من حديثك ان وجود الغابة وعدمها سواء من حيث أهميتها البيئية. فأجابني انه لا يشك في رأي أحد، ولا يقول ان وجود الأمازون وعدمها سواء، انما يتحدث في مسائل علمية محددة. ان مقولة الأمازون رئة العالم هي مقولة مبالغ فيها وهي ليست حقيقة علمية ثابتة. وألمح ان الهدف من هذه الحملة هو منع البرازيل من استغلال منطقة الأمازون الغنية بالموارد الطبيعية، وخاصة المعادن الثمينة، لصالح سكانها.

قناعات مهتزة

 خرجت من المقهى وأنا اشعر ان القناعات التي كانت راسخة في أعماقي بدأت تهتز، وأن الحماس الذي امتطيه باتجاه الأمازون يجب ان يهدأ قليلاً ليفسح المجال لقراءة أكثر وتحرٍ متأنٍ. فبدأت اقتنع تدريجيا برأي الدكتور فرنانديز في ان الخراب الذي يصيب الأمازون سببه الأساسي فعلاً هو الفساد السياسي والاقتصادي لأنظمة اميركا اللاتينية، ومسؤولية الغرب في تغذية مثل هذا الفساد في تلك البلدان. وان حرق الغابات وقطع اشجارها وتحويل مساحات شاسعة منها الى مراع لتربية المواشي من قبل قوافل المستوطنين الجدد، واقامة مصانع الورق التي تتغذى على اشجار الغابة، والوديان الغائرة التي تحفر في انحاء شاسعة من الغابة بحثا عن المعادن، كلها نتائج للسياسات الخاطئة التي انتهجتها ـ وما تزال ـ الحكومات البرازيلية المتعاقبة. لذا فإن مشكلة الأمازون ليست بيئية بل اقتصادية وسياسية.                                                           ففي الستينيات بدأت الحكومة البرازيلية بدعم تطوير منطقة الأمازون بعد ان انهارت صناعة المطاط فيها بين 1910 و1940 فبدأت اولاً برنامجاً كبيراً لبناء الطرق التي تخترق الغابات، ثم برنامجاً آخر لتخفيف الضريبة، وحتى الإعفاء منها، للمشاريع التي تقام في المنطقة، وكذلك منح القروض بفوائد رخيصة جداً، وأخطر هذه البرامج كان تقديم العون المالي لمشاريع تنظيف الغابات، والإعانات الضخمة لإيجاد المنطقة الحرة في مدينة مناوس عاصمة الأمازون. ونتيجة لكل هذا ازداد عدد سكان المنطقة خمسة في المائة في عشرين عاماً. نصف هؤلاء كانوا من المهاجرين.

وصلت عملية حرق غابات الأمازون ذروتها خلال الأعوام 1983 ـ 1987 في الفترة التي كانت الحكومة البرازيلية تقدم الدعم المالي بسخاء للذين ينظفون الغابات من أشجارها ويحولونها الى أراضٍ خالية تمهيدا لتحويلعا الى مراع لتربية الماشية، وما كان في نية هؤلاء استغلال هذه الأراضي، بل فقط الحصول على المعونة المالية من الدولة. وحتى يحصلوا عليها كان عليهم ان يثبتوا انهم أحرقوا تلك المساحة من الغابات ونظفوها من اشجارها. وفي خلال أربع سنوات من 1985 الى 1989 كانت الأمازون تفقد عشرين ألف كيلومتر مربع من غاباتها سنوياً، أي حوالي نصف مساحة سويسرا. ان السبب الأساسي لكل هذا التهالك للحصول على الاعانة الحكومية مقابل حرق الغابات هو الفقر بطبيعة الحال، سواء في منطقة الأمازون، او في البرازيل عموما.  Make it stand out

Whatever it is, the way you tell your story online can make all the difference.

اما في المناطق الشمالية الشرقية من البرازيل فإن المزارعين يهجرون أراضيهم ويفدون الى الأمازون هربا من ارهاب ملاك الأراضي الكبار الذين يستولون على أراضيهم بالإكراه. وهؤلاء المالكون الكبار هم في الأساس سياسيون متنفذون ومعظمهم أعضاء في البرلمان ووزراء وكبار ضباط الجيش، وهم يتمتعون بحماية القانون، او يطوعون القانون لصالحهم. ان نفوذهم السياسي إنبنى اساساً على مكانتهم الاجتماعية كملاك أراضٍ. من هذه القاعدة المحلية فقط استمدوا شرعيتهم للوصول الى مراكز السلطة العامة. وحتى الى منتصف قرننا هذا كان الفلاحون في هذه المنطقة يعتبرون جزءاً من الأرض التي يعملون فيها، أي أنهم كانوا جزءاً من املاك مالك الأرض، وكان يحق لهذا التصرف فيهم كما يتصرف في دوابه ومواشيه. وفي بعض مزارع هذه المنطقة ما يزال نظام الرق قائماً.

اقتنيت آلة تصوير جيدة ومنظاراً ونظارات شمسية سوداء مع بعض الثياب الملائمة لتلك المنطقة. وفي اليوم المحدد توجهت الى مطار هيثرو حيث تربض طائرة "الجامبو جيت" العملاقة متهيئة لطيران ليلي مدة أربع عشرة ساعة متواصلة الى مدينة سان باولو، ومن هناك ساعة أخرى الى ريو دي جانيرو. 

غابات الأمازون: ٪١٠ من اشعة الشمس تخترق الغابة

Previous
Previous

(2) رحلتي الى غابات الأمازون

Next
Next

نشيد الأرض” لغوستاف ماهلر“