(5) رحلتي الى غابات الأمازون

الدخول من نهر جوليموس الى عمق المجهول

جولة في بحيرة الزنابق العملاقة

(1992) وهاب ولي في عتمة غابات الأمازون

القرود 130 صنفاً.. حجم بعضها أكبر من الفيل

ومنها ما هو أصغر من إصبع اليد

أفعى “أناكوندا” تبتلع الإنسان والحيوان

ورأسها رأس ثور ضخم

أنطلق قاربنا من ميناء مناوس في الصباح الباكر عبر نهر سوليموس، وشرح لي دليلي فارغو اننا سنتجه الى بحيرة جانيواري التي فيها الزنابق العملاقة التي تسمى عادة “فكتوريا أمازوناس” نسبة الى الملكة فكتوريا زُرعت تكريماً لها بمناسبة اعتلائها عرش بريطانيا في العام ١٨٣٧، وفي رواية أخرى أن الملكة فكتوريا هي نفسها أهدت نماذج من هذه الزنابق لتزرع في الغابة بمناسبة تتويجها. وقال فارغو اننا نأمل أن نصل الى هناك بعد ثلاث أو أربع ساعات عبر الممرات المائية داخل الغابة، وبذا يتسنى لنا رؤية أشجار الغابة ونباتاتها وبعض حيواناتها، وسنتغدى في النزل الخشبي العائم ونستريح هناك لفترة، ثم نقوم بجولة في بحيرة الزنابق العملاقة والتي تأخذ منا حوالي الساعتين بعدها نعود الى نزلنا لنقضي الليل فيه. وفي الصباح، بعد الفطور، نترك قاربنا هناك ونأخذ قارباً أكبر ونكمل رحلتنا مع آخرين لنقوم بجولة في نهر الأمازون . سألته لماذا لا نقوم بجولة في النهر في قاربنا؟ قال ان قاربنا أصغر وأضعف على مقاومة التيار، خاصة عند التقاء نهر سوليموس مع نهر ريو نيغرو، بينما القارب الكبير فهو ذو طابقين وهو أثقل وذو محرك أقوى

غابة الأمازون مغمورة بالمياه

غابة الأمازون مغمورة بالمياه التي تتسرب من أنهار الأمازون وريو نيغرو و سوليموس وفروعها، بالاضافة الى الأمطار الإستوائية التي عادة ما تهطل يومياً طوال السنة ما عدا فترة قصيرة لا تتعدي أسبوعين أو ثلاثة في العام، وهذه الأمطار المتواصلة هي بسبب عملية التبخر الدائمة والمكثفة من الأنهار والأشجار ومن أرض الغابة المغمورة نفسها بالمياه. لكن العامل الأساسي للأمطار الإستواىية هو ان الرياح التي تهب من المحيط الأطلسي تجلب معها بخار الماء الدافئ  الذي تتكاثف جزيىاته مع بعضها البعض مكونة الغيوم المشبعة بالرطوبة التي تندمج قطراتها لتسقط كأمطار. وفي مثل هذا الجو المشبع بالرطوبة والدفء وبخار الماء تنمو الأحياء من نبات وحيوان وحشرات نمواً سريعاً و مكثفًا.

 

عالم من الأصوات والألوان

الغابة هي أكثر مكان ضوضاءاً في الكون من أصوات الحيوانات والطيور والحشرات، خاصة في أوقات الفجر والغروب. فأصوات أنواع  القرود والحيوانات الأخرى والضفادع والطيور والحشرات تصم الأذان  في هذه الأوقات، ويسود هدوء نسبي فيها في النهار وفي الليل. ومع كل هذا الضجيج الصاخب لا ترى شيئاً كثيراً من مصادر هذه الأصوات بسبب كثافة الأشجار والأدغال والتي تحجب ضوء الشمس سوى النزر اليسير منه. فبالرغم من دخولنا الغابة منذ أكثر من ساعتين من انطلاقنا من ميناء مناوس لم نر سوى بضعة قرود تتقافز بين الأغصلن وبعض الطيور التي تعبر سراعاً من فوق رؤوسنا، وحين أبديت استغرابي لدليلنا أجاب بأننا مازلنا في البداية وكلما توغلنا في الداخل كلما شاهدنا حيوانات وطيور وزواحف أكثر، فالغابة مليئة بهذه الكائنات. وأضاف ان القرود التي صادفناها ماهي إلا نقطة في بحر بالنسبة لقرود الغابة.

قرود بحجم إصبع اليد

وأضاف فارغو: هل تعرف ان هناك 130 نوعاً من القرود صنفت في الغابة حتى اليوم، وما تزال أصناف جديدة تكتشف بين فترة وأخرى. وتعرف هذه القرود ب”قرود العالم الجديد” وهي تنحدر من قرود افريقيا لكنها تتميز عن نظيرتها الأفريقية بأن فمها مسطحة ومنخارها تنفتح نحو جانبي الوجه، وتعتاش هذه الأصناف من القرود على أوراق الأشجار والنباتات وعلى الفواكة والحشرات. وأضاف ان أكبر قرود غابات الأمازون التي تعيش على الأشجار هو “البابون أورانج “ الذي يزن البالغ منه اكثر من ٨٠ كيلوغراما، أما الغوريلا فعادة ما تعيش في الأماكن المرتفعة من اليابسة ويزن البالغ منها اكثر من ٢٠٠ كيلو غرام ويبني الغوريلا مأواه من أغصان الأشجار بين الأدغال لنفسه ولصغاره، وعادة ما يكون شرساً في الدفاع عن عائلته. ولا يمكن روية هذه القرود الكبيرة والحيوانات الَضخمة بشكل عام كالفيلة والنمور والخنازير البرية والقطط الكبيرة إلا اذا توغلنا في عمق الغابة وهذا بالطبع أمر محفوف بالمخاطر. أما أصغر قرود الغابة حجماً فهو “قرد القشة” واسمه العلمي “سيبويلا” ويمكنك حمله على اصبعك ولا يزيد طوله عن عشرة سنتمترات ووزنه حوالي مائة غرام، لكن له ذيل طويل يصل حتى عشرين سنتمترا.

ورطة وسط النهر

فجاة صمت محرك القارب وأنفجر سائقه الأمازوني بكلمات غاضبة بلغته وهو يحدق في الماء، فتحدث فارغو اليه ثم التفت اليّ وقال ان مروحة المحرك قد تعلقت بجذور الأشجار في قاع الماء، فجذور بعض الأشجار تمتد الى مسافات بعيدة تصل احيانا الى نصف كيلو متر عن الشجرة الأم نتيجة رخاوة التربة. أخذ السائق مجذافاً من القارب وبدأ يعمل لتخليص المروحة من الجذور الملتفة بها

كان الحر والرطوبة  شديدين يجثمان على الصدر ويسببان ضيق التنفس والتعرق المستمر الذي يسيل من كل أنحاء الجسم، وبسبب لزوجته تلتصق الثياب الخفيفة التي كنت أرتديها على الجسم مما يسبب إزعاجًا إضافيًا. ولا تختلف درجات الحرارة في الغابة كثيراً بين النهار والليل وتتراوح عادة بين ٢٥ الى ٣٠ درجة مئوية طول أشهر السنة. أستمرت محاولة الرجل لتحرير المروحة حوالي نصف ساعة، وهو يدمدم طول الوقت، وخمنت أنه يصب اللعنات علينا وعلى غابات الأمازون وعلى قاربه، ثم بدأنا بالتحرك.

بحيرة الزنابق العملاقة

بعد فترة من السير حيث اخذ الممر المائي يتسع سعة هائلة دخلنا الى بحيرة "جانيواري"، وهي بحيرة شاسعة فيها بالتحديد يمكن رؤية زنابق الماء العملاقة. ركنا القارب الى جانب سقالة ثم أخذنا نسير الى حيث البحيرة الشاسعة والضحلة، التي تكثر فيها هذه الزنابق، عن طريق جسر خشبي صغير يمتد من النزل الخشبي الطافي على البحيرة حتى منطقة الزنابق. وتعرض على امتداد هذا الجسر أنواع من المصنوعات الخشبية الأمازونية، والقواقع وأسنان الحيوانات وجلودها، وأنواع من أسلحة الهنود كالرماح والسهام والأقواس والأقنعة، وهي مصنوعات شعبية بسيطة وساذجة لا تنجح في إقامة علاقة حميمة بين الانسان الذي يتأملها وأصولها الحقيقية.

Make it stand out

Whatever it is, the way you tell your story online can make all the difference.

كانت هنالك سقالة خشبية في نهاية الجسر يمكن منها تأمل الزنابق والتقاط الصور الفوتوغرافية لها. وكان وصف هذه النباتات بالعملاقة وصفاً صادقاً، اذ أن قطر ورقتها الدائرية يتجاوز احيانا الثلاثة أمتار، وكانت طافية على وجه الماء بينما جذورها مغروسة في التربة، وتبدو خضراء لامعة تحت الشمس، تنتصب في مركز بعضها زهور كبيرة مضمومة أشبه بكرة، قالوا انها تتفتح ليلاً لأنها لا تحب ضوء الشمس، فأيقنت ان هذا النبات ما يزال وفياً لأصله الانجليزي اذا صدقت رواية أن الملكة فيكتوريا هي التي أهدت هذه النباتات الى الغابة. وتتكاثر هذه النبتة عن طريق زهورها التي تبدأ بالانفتاح مع غروب الشمس ثم تعود للانغلاق مع شروقها. فمع هبوط الظلام ترتفع درجة حرارة الزهرة الداخلية لتصبح أدفأ بعشر درجات من حرارة الجو مما يشجع الزهرة على الانفتاح وبث رائحة عطرة تجذب الحشرات اليها التي تلقح هذه الزنابق عن طريق نقل غبار اللقاح من الزهرة الذكر الى الأنثى. فتتحول لون الزهرة الأنثى من الأبيض الى اللون الوردي.

أطباق خضراء طافية

فتنتني هذه النباتات اذ كانت تشكل تناغماً جميلاً مع وجه الماء مثل أصحون خضراء واسعة على مائدة غير صافية الألوان. كان وجه الماء مستقراً وكذلك الصحون الخضراء، لأننا كنا في شهر يونيو (حزيران) وهو موعد انحسار المياه، لكن الغابة على امتداد البصر كانت مغمورة في المياه. التقطت عدة صور، وكنت أفكر: لماذا افترضت الملكة فيكتوريا ان غابات الأمازون تفتقر الى الزنابق فبادرت الى اضافتها اليها؟ ومن الذي اكتشف كل أرجاء الأمازون وصنف نباتاتها حتى يعرف أن الغابة تخلو من الزنابق وهي التي تحتوي على مائة ألف نوع من النباتات في تقدير بعض العلماء، وضعف هذا في تقدير آخرين، اذ صنفوا في هكتار واحد من الغابة ستمائة نوع مختلف من الشجر على الأقل.

أفعى برأس ثور

عدنا الى النزل الخشبي الطافي على البحيرة، وكان أحد الصبية يحمل على كتفه جثة أفعى ضخمة من أفاعي الأمازون، كانت طويلة بحيث يتكوم نصفها على الأرض، وكان الصبي يحمل رأسها، الذي بحجم رأس ثور في حضنه. كانت الأفعى أطول من الصبي بكثير. وكان واضحاً انه اذا لم يكن واقفاً في مكانه لتعذر عليه حملها والسير بها. وقال لي فارغو أنها من نوع "أناكوندا" وهو احد أصناف عائلة بوا وأنها ليست مكتملة النمو بعد لأن البالغ منها يتراوح طوله من ثلاثين الى اربعين قدماً. كنت قد رأيت صورة هذه الأفعى في أحد الكتب التي تتحدث عن حيوانات الغابة. كانت ضخمة جداً ووحشية المنظر، ولا يمكن رؤيتها في الغابة كثيراً لأن لها قدرة هائلة على التخفي بين الأدغال الطافية على الماء أو تحت الأغصان المتكومة على الأرض، وتعيش عادة على ضفاف النهر. وبالرغم من ضخامة الأناكوندا ووحشية منظرها الا انها غير سمية وليست خطرة إلا اذا هوجمت. فهي تعتبر من الأفاعي الكسلى وبطيئة الحركة، لكنها تقضي على فريستها بإستخدام فكها القوي للقبض على الفريسة، ثم تستخدم جسمها العضلي للالتفاف حول الضحية قبل ابتلاعها بالكامل، وسكان الغابة يصيدونها بسبب جلدها الذي يستعمل قسم منه داخل البرازيل والبقية تصدر الى الخارج حيث تقبل عليها دور الأزياء والموضة الشهيرة والتي تستعملها في صناعة الحقائب النسائية والأحذية الغالية. ومعظم أفاعي الأمازون تنتمي الى فصيلة “كولو بريدا” الأصلية، ومنها نشأت أنواع مختلفة مثل "الكورال" وكلها سامة جداً. أما أخطر أنواع أفاعي الأمازون سمية وشراسة فهي الأفعى الوحشية أو “بيت فايبر”، وكوبرا الملك. وبالرغم من أن بعض هذه الأفاعي تعيش على ضفاف الأنهار إلا أنها لا تعتبر أفاعي مائية رغم قدرتها على السباحة مثل كثير من الزواحف التي تعيش هناك، فالعظايا الاستوائية الضخمة، مثلاً، والتي يبلغ طولها أكثر من متر، وهي آكلة أعشاب، عادة ما تشاهد وهي تقفز من فوق الأشجار الى الماء وتغوص فيه ثم تسبح وتخرج الى اليابسة وتتسلق الأشجار العملاقة

جاراراكا..القاتلة

الأفعى الأكثر سمية والمسؤولة عن قتل الانسان في الأمازون هي

التي يطلق عليها أفعى "جاراراكا" التي تنفث سماً أصفر حين تلدغ، يكون قاتلا ً في ثوان فقط. كما هنالك أفاعي خطيرة أخرى منها “بوش ماسترز” والأفاعي المخشخشة. وعادة ما تتردد قصص كثيرة عن ابتلاع هذه الأفاعي للحيوانات والكائنات الانسانية وبشكل ترتعد لها الأبدان

ان المواقع الفضلى للأفاعي السامة في الأمازون هي ضفاف الماء الضحلة المغطاة بأوراق الأشجار الساقطة وبالأدغال الطافية فوق الماء. ومن هنا الخطورة في الغوص في مثل هذه الأماكن او السباحة فيها.

أفعى أناكوندا .. تقتل فريستها، من انسان وحيوان، بالالتفاف حولها وعصرها ثم إبتلاعها

الحلقة القادمة جولة في النهر ذو اللونين

Previous
Previous

(6) رحلتي الى غابات الأمازون

Next
Next

(4)رحلتي الى غابات الأمازون