(6) رحلتي الى غابات الأمازون

جولة في النهر ذو اللونين


ريو نيغرو وسوليموس يشكِّلان الأمازون العظيم

ريو نيغرو (الأسود) يلتقي سوليموس (البني) ليكونا الأمازون العظيم

مساحة حوض الأمازون 6 ملايين كيلومتر مربع 70 % منه في البرازيل

أوسع أنهار العالم عرضاً.. وأطولها بعد نهر النيل

تدفق مياهه يملأ بحيرة أونتاريو بين كندا واميركا في 3 ساعات فقط

عدنا الى نزلنا الخشبي الطافي بعد أن أمضينا بعض الوقت في مشاهدة الزنابق العملاقة في بحيرة جانيواري وتأمل بعض المنتجات المعروضة على مدى الممر الخشبي. في طريق عودتنا أخذنا الحديث الى مواضيع عديدة مثل البيئة والثقافة والسياسة. قال فارغو ان مشكلة البرازيل تكمن في فساد سياسييها. قلت ان الأمر نفسه في كل بلاد المعمورة إلا من رحم ربك. حان موعد العشاء، بعده استأذن سائق قاربنا وذهب الى فراشه وبقينا أنا وفارغو نتحدث حتى بدأ النعاس يتسلل الى أجفاننا فانسحبنا كل الى فراشه

في صباح اليوم التالي، وبعد الفطور، أخذنا القارب ذو الطابقين مع مسافرين آخرين، معظمهم من السياح، عبر نهر سوليموس بهدف الوصول الى ملتقى هذا النهر مع رافد كبير آخر هو نهر ريو نيغرو ليشكلا الأمازون الكبير.

كان الجو صافياً ونحن ننساب على مياه سوليموس، وكان النهر هادئاً اذ أن موسم الفيضانات لم يحل بعد فهو يبدأ في شهر يناير (كانون الثاني) ويستمر ستة شهور بينما كنا نحن في يونيو (حزيران). كنا نسير في بداية الأمر قريباً من الضفة التي تقع عليها مدينة مناوس، وكان بالإمكان مشاهدة الضفة الأخرى، لكن مع تقدمنا في الانسياب كانت الضفة الأخرى تختفي أحياناً، وتبدو مجرد خيط أخضر. ثم نقترب تدريجياً من الضفة مرة اخرى، وكانت تصادفنا قوارب محملة بالثمار والخارجة من الغابة وهي تتجه نحو مدينة مناوس التي فيها تتجمع هذه المنتوجات، منها ما توزع على انحاء البرازيل ومنها ما تصدر الى بلدان العالم. كانت أكوام الثمار الملونة تبدو براقة ومشعة تحت الشمس، وكانت هنالك بعض قطع الغيوم التي تتجمع فوق الغابة وتختلط بالضباب الذي يرتفع من تحتها. والواقع ان اسم سوليموس، الذي يطلق على النهر الذي نبحر فيه للالتقاء بنهر ريو نيغرو، هو الامتدادات العليا لنهر الأمازون وتمتد من ملتقاه مع ريو نيغرو صعوداً الى حدود بيرو. ونهرا سوليموس و ريو نيغرو ليسا هما الرافدان الوحيدان لنهر الأمازون فعدد روافده هو تسعة عشر نهراً. وان ريو نيغرو ليس النهر الأسود الوحيد في حوض الأمازون بل كذلك كل الروافد التي تأتي من مناطق غويانا في الشمال الشرقي، مثل أنهار ريو برانكو وتاباغوس وزنغو وأراغوايا وتوكانتينس وريو نابو وريو كاكويتا غابورا وريو غوروا وريو بوراس وريو ماديرا ماموري، بينما نجد لون مياه نهر سوليموس وروافده التي تنبع من جبال الأنديز هو بلون الطين أو القهوة الممزوجة بالحليب.

ألوان من ثمار الغابة

خمس المياه العذبة في كل أنهار العالم تجري في الأمازون

المياه التي يلفظها الأمازون في المحيط هو 7 ملايين قدم مكعب في الثانية

حوض الأمازون

منطقة الأمازون، او حوض الأمازون، تقع في اراضي تسعة بلدان هي البرازيل، فنزويلا، كولومبيا، اكوادور، بيرو، بوليفيا، غويانا، غويانا الفرنسية وسورينام وتغطي مساحة ستة ملايين كيلومتر مربع. لكن البرازيل وحدها تحتضن 70 في المائة من هذا الحوض. وسبعين في المائة من هذه المساحة في البرازيل مغطاة بالغابات الكثيفة المكونة من الأشجار العملاقة ذات الأغصان الكثيفة التي تحجب ضوء الشمس عن الأسفل بحيث يتعذر اخذ صورة فوتوغرافية في هذه المنطقة في وضح النهار دون استعمال ضوء الفلاش. خمس المياه العذبة في كل أنهار العالم تجري في الأمازون، وحجم المياه التي يلفظها النهر في المحيط الأطلسي هو سبعة ملايين قدم مكعب في الثانية. وبامكان هذا الكمية من المياه المتدفقة ان تملأ بحيرة مثل بحيرة اونتاريو بين كندا واميركا بثلاث ساعات فقط. ومجموع روافد هذا النهر، أو البحر الشاسع، هو أكثر من ألف رافد. سبعة عشر رافداً منها طول كل واحد منها أكثر من ألف ميل. كما ان الأمازون أوسع أنهار العالم عرضاً، والواقع تختلف التقديرات في تحديد عرضه اذ ان هذا يختلف تبعا للمواسم، ففي الأوقات الجافة يقدر عرضها من خمسين الى سبعين ميلاً في بعض المناطق، ويتسع ليصل الى الضعف أحياناً في أوقات الفيضانات وفي فتحة مصبه، لذا فليس هناك أي جسر على نهر الأمازون اذ يستحيل تشييده عليه أولاً بسبب تبدل عرضه باستمرار أثناء جريانه تبعاً لتغير المواسم وبسبب ضخامة حجم فيضانه، ثانياً لرخاوة التربة في المنطقة التي يجري فيه. كما أن عمقه في معظم مجراه أكثر من نصف ميل فيتيح ذلك للبواخر الابحار فيه الى مسافة اكثر من 2000 ميل باتجاه منابعه، وهناك جزيرة في مصبه، هي ماراغو، مساحتها أكبر من مساحة سويسرا

مشهد إحتفالي فريد

بعد حوالي الساعتين في نهر سوليموس بدت احدى ضفتي نهر ريو نيغرو أكثر وضوحاً. قال فارغو اننا نقترب من المنطقة التي يلتقي فيها نهرا سوليموس وريو نيغرو ليشكلا الأمازون العظيم. كان مشهداً احتفالياً فريداً ذلك المنظر قلما يتاح للانسان، اذا أتيح له طبعاً، ان يشاهده ويعايشه. وشخصياً عشت مرة واحدة قبل الأمازون، مشهداً شبيها بهذا المشهد، الى حدٍ ما، حين شاهدت التقاء نهري دجلة والفرات في منطقة القرنة في جنوب العراق ليشكلا شط العرب. لكن لا بد من التذكير ان شط العرب نفسه، قياساً الى الأمازون، ليس إلا جدول متواضع يمكن ان يسبح في مياهه صبي صغير.

لقاء حوار بين النهرين

دخلنا الأمازون في النقطة التي يلتقي فيها سوليموس وريو نيغرو. كانت مياه النهرين ترفض احداهما الأخرى. وأنت تتأمل المشهد تحس انه لقاء حوار بين النهرين، لا لقاء عناق بل لقاء ندين متمايزين، كلاهما يعتز بكينونته المتفردة وبخصوصيته الفذة. كلاهما يحس ان اندماجه مع الآخر هو تنازل عن العراقة الممتدة الى ملايين السنين. إفراط في مجد الأصل والتاريخ، يد أحدهما تمتد للأخر في مصافحة حذرة وحوار حذر ككائنين من عرقين متمايزين ومن جهتين متنافرتين من الكوكب يلتقيان فجأة ولأول مرة حول موضوع مصيري. كلاهما يحس ان الآخر غريب يمتلك عنصر المفاجأة وبالتالي غير مأمون الجانب. كنت أرى قطعة صغيرة بحجم كف اليد من الماء الطيني تدخل في الماء الأسود لكن سرعان ما تتراجع أو يلفظها الآخر، ثم تعاود المحاولة وتبقى هذه المرة أطول كأنها تشم الآخر لبرهة لكن هذا لا يستجيب.

تدريجياً، مع مرور الوقت، بدأت البقع تظهر في الطرف الآخر. كنت أشاهد بقعاً سوداء في الجانب الطيني الأصفر وبقعا صفراء داكنة في الجانب الأسود، ثم بدأت البقع تتمطط لتصير أخاديد صغيرة في الطرف المقابل. مرت أكثر من ساعة ونحن نسير في الأمازون وسط هذا اللقاء المتردد بين هذين اللونين المتمايزين. ثم بدأت الأخاديد تتسع وتتسع وأخذ اللون الغريني يلتهم اللون الأسود، واللون الداكن ينحسر تدريجيا مثل إنحسار الظلام أمام انبلاج الفجر. مشينا أكثر من ثلاثين كيلومترا قبل أن يسيطر اللون الغريني على الأمازون وقبل أن يستسلم اللون الأسود ويغوص في أعماق النهر المجيد.

كان المسافرون في قاربنا يتحدثون بآلية مملة وهم يعبرون عن دهشتهم لغرابة ما يشاهدونه. سددتُ أذناي عما يدور وبدأت أتأمل الأمازون الجبار. ها أنا أبحر في أكبر أنهار العالم وأكثرها غرابة وسحراً وفتنة وغموضاً، فيا لحظي السعيد!

أسماك تعيش على الأشجار

أسماك تعيش فوق الأشجار

حوض الأمازون ما يزال يحتفظ بقدر كبير من أسراره. فحين بدأت الحكومة البرازيلية برنامجها عام 1971 لرسم خارطة للأمازون بواسطة التصوير من الفضاء واستعمال الرادار لاختراق السحب في التصوير، اكتشف العلماء اثناء ما كانوا يدرسون الصور الملتقطة رافداً جديداً للأمازون بطول اربعمائة ميل كان يجري بخفاء تحت الأشجار العالية الكثيفة. ولم يكن هذا النهر معروفاً على الاطلاق حتى لحظة اكتشافه. وقبل هذا، في العام 1913 كان الرئيس الأميركي الأسبق تيودور روزفلت قد اشترك في رحلة داخل الأمازون. فاكتشف هو رافداً من روافد النهر بطول ألف ميل. وسمي النهر الجديد باسم "نهر روزفلت". كما اكشتفت في أوائل الستينات من القرن الماضي قبيلتان هنديتان في أعماق الغابة لم تكونا معروفتين لعلماء البيئة والأجناس حتى ذلك الحين. كما اكتشف في عمق الغابة جبل شاهق مخفي بين الأشجار العملاقة،

اما الأسماك فهناك في الأمازون أكثر من ثلاثة آلاف نوع منها، لم يصنف ويعرف منها غير ثلاثين نوعاً فقط حتى الآن، وآخر نوع من هذه اكتشف حديثا، وهو نوع من السمك بدون عيون وعظام وحراشف، وهي تعيش في المواسم الجافة، لا في الأنهار، بل على اوراق الأشجار والرمال الرطبة في ارض الغابة. هناك في الأمازون اكثر من خمسمائة نوع من سمك السلور، بأحجام مختلفة، كما هناك نوع صغير من السمك يدعى كانديروس يخشاه كل سكان الأمازون لخطورته. فله قدرة عجيبة على المناورة، ولا يتعدى حجمه عود الثقاب، لكنه يخترق جسد الانسان والحيوان الذي يسبح في النهر عن طريق فتحات الأعضاء الجنسية. حيث يستقر هناك غارساً نفسه في جسده عن طريق أشواك حادة مسببا آلاماً مبرحة للضحية. ويتعذر اخراجه من جسم الانسان او الحيوان بدون عملية جراحية

ومقابل هذه الأسماك الصغيرة، هنالك أسماك عملاقة مثل بيراركو التي قد يبلغ طول الواحدة منها احيانا اكثر من خمسةعشر قدماً ووزنها مائة رطل، ويعتقد ان هذه السمكة هي أكبر أسماك المياه العذبة في العالم. وهناك ثعبان الماء (سمك الانقليس) الكهربائي، حيث ان بطاريته التي تشبه الذيل تولد شحنة كهربائية بين خمسمائة الى ألف فولت، بامكانها صعق وقتل الحيوان والانسان.

بيرانا آكل اللحوم

بيرانا المفترسة

البيرانا والتامباكي نوعان من السمك موجودان في كل أنهار منطقة الأمازون. وتتميز سمكة البيرانا بحجمها وبأسنانها الكبيرة والحادة التي تعمل في جسد الفريسة مثل المقص. هذه السمكة تهاجم الانسان والحيوان في مواسم شحة الغذاء في أشهر انحسار مياه الفيضانات. لكنها تهاجم الانسان او الحيوان الجريح بشراسة، ربما بسبب رائحة الدماء او لإحساسها ان الضحية غير قادرة على الدفاع عن نفسها. وهناك قصص عديدة تروى عن شراسة هذه السمكة، لا يمكن البت فيما اذا كانت أساطير أم حقائق، منها ان فوجاً كاملا من افراد الجيش كان يعبر أحد الجداول العميقة على ظهور الخيول، حين هاجمتهم اسماك البيرانا التي سرعان ما التهمت الحيوانات ولحوم الجند وظلت ثيابهم طافية على الماء. غير أن هناك أكثر من عشرين نوعاً من هذا السمك لا تعيش كلها على اللحوم، بل على الحشائش والفواكه والبذور.

في مطعم نزلناالخشبي كانت رائحة السمك المشوي قوية، تختلط بالرائحة النفاذة التي تهب من البحيرة والناتجة عن تحلل المواد العضوية فيها. كان الجو رطباً وحاراً. وسألني فارغو اذا ما كنت راغباً أن يكون عشاؤنا هذا المساء من سمك التامباكي فهو ألذ أسماك الأمازون طعماً. قفزت الى ذهني فجأة ثياب الجنود الذين التهمتهم أسماك البيرانا وهي طافية على الماء ملطخة بدمائهم، فسرت رعشة خفيفة في جسدي، وطلبت شيئا آخر للعشاء

تماسيح الجاكاري

إقترح دليلي فارغو عليّ ان نحضر مشهد صيد تماسيح الجاكاري هذه الليلة، فقلت فزعاً: تريدني أن أكون وسط النهر الوحشي وفي قارب صغير وفي الليل بين التماسيح ؟ لا شكراً، فلستُ متأكداً من حظي الى هذه الدرجة !

في طريق عودتنا وحين اقتربنا من ضفة النهر أكثر، لكزني فارغو وأشار الى الضفة حيث كان عدد من التماسيح تتمدد على الضفة تحت الشمس. وهتفتُ: انها تماسيح.! لكنه قال انها ليست من صنف التماسيح الأفريقية انها جاكاري (القيمان)، وأضاف ان من غرائب الطبيعة ان التماسيح، بشكلها الأفريقي، غير موجودة في مياه الأمازون بالرغم من انها قادرة على العيش في مياه المناطق الاستوائية، لكن هناك ما يشبهها تماماً هو الجاكاري كما يسميه البرازيليون، وهو من أطول زواحف الأمازون الى جانب أفعى أناكوندا، اذ يبلغ طوله من خمسة الى ستة أمتار. غير ان هذا الحيوان الذي كان يملأ مياه الأمازون أخذ ينحسر تدريجياً نتيجة الاقبال الشديد على صيده بسبب جلده المرغوب في الصناعات الجلدية. وهناك جولات سياحية منظمة في النهر يأخذونك فيها ليلاً لكي ترى كيفية اصطياده، اذ يسلط الصياد ضوءاً قوياً من مصباح يدوي على عيني الحيوان فيجمد في مكانه ويسحبونه من الماء الى القارب. غير أن الصيد الحقيقي يتم بواسطة الحراب، وهو ما يزال يمارس بالرغم من الحظر المفروض عليه قانوناً. وتضع انثى الجاكاري من 30 الى 60 بيضة في عشها وعلى طبقتين. وعادة ما يبطن العش بالأعشاب المتفسخة التي تساعد تفاعلاتها الكيماوية في تزويد البيوض بالدفء اللازم. وإذا ما كانت نسبة الدفء جيدة فان البيضة تفقس في خلال شهر أو تأخذ عملية الفقس شهراً ونصف الشهر اذا كانت درجة الحرارة واطئة. وسألني فارغو اذا ما أرغب ان يرتب لي مشهد الصيد هذه الليلة حين نعود من جولتنا. قلت شكراً، فأنا لا أرغب ان أكون مضغة بين اسنان التماسيح، فضحك قائلاً: لا تخف فان تماسيح الجاكاري ليست من أكلة اللحوم بل تتغذى على الأسماك والسلاحف وعلى الأعشاب، ولم يسجل حتى الآن انها هجمت على الانسان، قلت له: في هذا النهر الوحشي في الليل، وفي قارب صغير، وبين التماسيح ؟! شكراً فارغو فأنا لست متأكداً من حظي الى هذه الدرجة.

تماسيح الجكاري (القيمان) لاتهاجم إلانسان إلا اذا هاجمها هو


الحلقة المقبلة: التوغل داخل الغابة سيراًعلى الأقدام

Next
Next

(5) رحلتي الى غابات الأمازون