نشيد الأرض” لغوستاف مالر“
الاحتماء بالطبيعة من رعب الموت
"نشيدالأرض" من أكثر مؤلفات غوستاف مالر(١٨٦٩-١٩١١) إثارة للجدل حول هويتها الموسيقية. هناك نقاش مستمر حتى اليوم بين الموسيقيين حول طبيعة هذا التأليف الموسيقي الاستثنائي: هل هي سيمفونية ام انها سيمفونية غنائية، بينما يرى آخرون انها "دورة أغاني" (سونغ سايكل)، ام مجرد مجموعة أغان لا أكثر؟
ويأتي هذا التعارض في فهم هذه القطعة من طبيعة العمل الذي انجزه مالر وهو في قمة قلقه وحيرته أمام المصير الإنساني، لا كمعضلة فردية، بل كونية أراد ان يعبرعنها، كما في أعماله السيمفونية، بطريقة خاصة تناسب خصوصية مشكلة الكائن الإنساني الأعزل أمام مصيره المرعب ألا وهو الموت.
"نشيد الأرض" هي "دورة أغنية" اوركسترالية دون شك، اقترح مؤلفها تأديتها من قبل مغنيين اثنين من الدرجتين الصوتيتين كونترالدو (أوطأ صوت نسائي) والتينور (أعلى صوت رجالي) بالتوالي.
تنطبق على هذه القطعة كل مواصفات "دورة الأغنية". فباعتبارها نوعاً موسيقياً متعدد القطع، فهي تختلف تماما عن شكل السوناتا أو السيمفونية، لأن كل حركة في داخلها يمكن فهمها على انها قطعة مستقلة يمكن تأديتها بمفردها، وفي الواقع، كانت تؤدى كذلك في كثير من الأحيان خلال القرن التاسع عشر.
لم تكن المصطلحات الخاصة بدورة الأغنية في القرن التاسع عشر فقط هي التي اختلفت بل كذلك الوسائل التيتم بها تجميع الأغاني معًا، اذ تتكون بعض الدورات من وغالبًا ما يكون الموضوع المفضل في "دورة الأغنية" ذاتطبيعة عاطفية، مثل الحب، وخاصة غير المتبادل، كما يتم استخدام صور الريف بشكل متكرر. وتتميز الخطوطالصوتية عادةً مجموعة قصائد يمكن من خلالها تتبع خيط سردي معين. وتعتبر مقطوعة "حسناء الطاحونة" لشوبرت مثالاً على ذلك، حيث يلتقي الشاعر بصاحبة المطحنة الجميلة لكنه لم يوفق في محاولاته لاستمالتها فيخسرها أمام منافسه عليها الصياد متنبئ الطقس. وتدور موضوع خيبة الشاعر في هذه الدورة عبر ٢٠ قصيدة من تاليف ويلهلم مولر.
وتتكون الدورات الأخرى من قصائد ذات موضوع مشترك لكن بدون خيط سردي. وتعتبر قطعة "حب إمرأة وحياتها" لشومان المستوحى من القصائد التي اختارها من مجموعة أكبر من القصائد المنشورة مثالاً على ذلك.بالبساطة الواضحة، مقارنةً بالانتقالات الصوتية والتعبير الباذخ اللذين يميزان التأليف الأوبرالي. وتنطبق كل هذه العناصر على "نشيد الأرض"
ودون شك، ان "أغنية الأرض" لها تركيب خاص لا يتطابق مع أي هيكل موسيقي مألوف. إنها مرتبطة بالغناء، وهذا صحيح، لكنها أيضا ذات شبه بالتركيب السيمفوني، ومن هنا يتأتى هذا الجدل حول هويتها. غير ان مالر كان يسعى في جميع أعماله الى الوصول الى شكل موسيقي جديد باستخدام فكرة الأغنية (ليدر). ففي سيمفونياته السابقة، مثل الثالثة والرابعة والمرتبطة بالأغنية أيضاً، يتخذ جزء من العمل فقط شكل الأغنية، بينما في “أغنية الأرض" تأخذ الحركات الستة جميعها هذا الشكل الغنائي.
نصوص الأغاني الستة هذه تأتي من خارج التقاليد الغربية، من الصين بالتحديد، مما تجعل الموسيقى، بشكل طبيعي، نوعاً من التضاد، بين الشرق والغرب، او ربما التآلف بينهما. انها جامعة بين عالمين، بجزئيها المتباينين للغاية؛ الطقسي الذي يوظف نصوصاً صينية، بينما الثاني روحي وذاتي، حيث يقدم الكائن الانساني كفرد أعزل في مواجهة مصيره. وكان مثل هذا التضاد رائجًا في الثقافة الأوروبية، بشكل خاص، مع أفول القرن التاسع عشر وبزوغ القرن العشرين، وكثير من الكتاب تأثروا بها خاصة من الشخصيات الثقافية الكبيرة الذين كانوا مفتونين بالشرق وثقافته مثل الشعراء الألمان روكيرت وشيلر، والموسيقيين الفرنسيين موريس رافيل وكلود ديبوسي.
ومالر، في كل موسيقاه، يسعى الى شيء كوني، متجنبًا الصور النمطية التي كان الغرب ينظر فيها الى الشرق. فهو يسلط الضوء من خلال جميع أعماله على هذا الإحساس بمراحل الحياة وصراع الكائن الانساني مع عزلته ومصيره الذي ينتهي بمواجهة الموت، مستكشفاً هذه الأفكار ليس كمصير فردي بل من منظور فلسفي كوني شامل. وكان تساؤله المأساوي هو: كيف يمكن وجود كل هذه القسوة والوحشية والمعاناة في هذا الكون بالرغم من وجود هذه الطبيعة الفاتنة؟
"أغنية الأرض“عبارة من ست نصوص مستقاة من ألشعر الصيني القديم، وضعها مالر في قالب غنائي عبر تطوير مستمر للموتيف المركزي ولو بشكل غير تقليدي. تتناول هذه الحركات الستة الفكرة المركزية لهذا العمل وهو المسيرة الحياتية للكائن الفرد الأعزل وخلاصه، الذي يراه مالر، في حل كوني هو احتضان الطبيعة كمنجاة من المصير الانساني المحتوم.
كان مالر يعاني من أشد المصاعب النفسية الشخصية والعاطفية وقت تأليف "أغنية الأرض". ولهذا تتناول هذه الأغاني مواضيع مثل الحياة، الموت، الحب والفراق. وكانت فكرة الموت مسيطرة عليه وهو يشاهد وفاة اشقائه الستة وإبنته أمام عينيه وجنون أحد اخوانه واثنين من اقرب اصدقائه، فلم يجد ـزمامه من يحتمي به سوى الطبيعة فاحتضنها بكل احاسيسه، فهي الباقية الأبدية تتجدد كل دورة عام حيث يأتي الشتاء وينقضي ليفسح المجال للربيع، ويحل بعده الصيف ثم الخريف ويعود الشتاء وتتكرر هكذا دورة الحياة الطبيعية. اما الكائن الإنساني فمصيرة العدم الكامل بلا عودة.
وملخص الفكرة المركزية لهذه القطعة هو ليس من شاب يعتقد انه سيموت مع انهم جميعاً يدركون ان لا مفر من الموت، لكنهم يوهمون أنفسهم ان هذا المصير سيكون لغيرهم لا لهم. ومالر في جميع أعماله، امام رعب فكرة المصير لإنساني، يحن دائماً الى السلام الأبدي في العودة الى حضن الطبيعة الام.. الى حضن الأرض.
هذه القطعة مبنية على تطوير الموتيف المركزي مع وضوح ونقاء توزيع الآلات الموسيقية، فهو يوظف هنا الشكل الأوركسترالي التقليدي مضافا اليه المزيد من الآلات الهوائية. مادة القطعة تحاكي جواً شبه صيني باستعمال السلم الخماسي (بنتاتونيك)، مفعم بوجع قلبي عميق. انه أسلوب مالر الشخصي المفضل في جميع تأليفاته الموسيقية.
الحركة الأولى ”أغنية الشرب لنخب حزن الأرض“ : أصوات مقاومة عنيفة للحزن واليأس من خلال توظيف الأوركسترا في لحن مشرق عن جمال الأرض وبهجة الحياة. لكن شبح الموت حاضر ايضاً:
"الآن، النبيذ مغرٍ في الكأس الذهبية.
لكن لا تشرب بعد. سأغني لك أغنية أولاً!
أغنية حزينة
سيتردد صداها في نفحات من الضحك
في روحك..."
الحركة الثانية "الوحيد في الخريف“: حركة بطيئة السرعة تصور مشهد الضباب على زرقة البحيرة ورعشة الصقيع:
"يا شمس الحب، هل ستشرق مرة أخرى
لتجفف بحنو دموعي المريرة..."
الحركة الثالثة ”الفتوة“: حركة منعشة ذات رنين لمشهد فتيات وفتيان يتحدثون بجزل ونعومة في حديقة منزل على جزيرة وهم يرتشفون الشاي، ومنظر الجميع ينعكس بشكل مقلوب على صفحة الماء:
"في المنزل الصغير يجلس الأصدقاء،
بأزيائهم الأنيقة، يشربون ويتحادثون.
بعضهم يكتب أشعاراً..."
الحركة الرابعة ”الجمال": حركة بطيئة رقيقة تصور فتيات شابات تجمعن الزهور، قسم وسطي ذات ضجيج يصور فرسان يمرون بالقرب منهن:
"العذراوات الشابات يقطفن الأزهار
يقطفن زهور الزنابق من ضفة النهر
وسطا لأدغال وأوراق الشجر يجلسن
يجمهن الزهور في احضانهن. وينادين
على بعضهن البعض باغاظة..."
الحركة الخامسة "الثمل في الربيع“: حركة قوية تنتقل بنعومة من مفتاح الى آخر، نشطة مترنحة (الثمل السعيد يناضل للوصول الى فراشه). حنين جارف الى موسيقى الطبيعة مع تغريدات حالمة لعصافير تبشر بمجيء الربيع:
"إذا كانت الحياة ليست أكثر من حلم
فلماذا اذن الكدح والقلق؟
سأشرب حتى النهاية
على مدار اليوم..."
الحركة السادسة ”الوداع“: بطيئة نسبياً (اداجيو)، وهي أطول حركات المقطوعة وذروة تألقها. الجو حزين ومأساوي. صوت واضح لطبل تام تام. طعنة ألم من آلة الأوبو. ايقاع حزين يرافق آلتي البوق (هورن) والكلارنيت لموكب يسير مبتعداً متلاشياً:
"أتجول في الجبال، ناشداً الراحة لقلبي الوحيد.
أسافر نحو الوطن، الى مكان راحتي.
لن اتجول بعد الآن بحثاً عن أماكن بعيدة.
قلبي ما يزال حياً ينتظر ساعته
الأرض الحبيبة تخضر وتزهر في الربيع
مرة أخرى في كل مكان وإلى الأبد .. إلى الأبد.."
. تضم موسيقى غوستاف مالر كل العواطف الانسانية المتضاربة؛ فهو يعبر فيها كل ما كان يعانيه ويحس به شخصياً وكونياً. ففيها المارش العسكري والألحان الجنائزية والرعوية، هناك التأمل والأمل، اللامبالاة والخفة. كتب مالر الموسيقى كما كان يسمعها في داخله وكما كان عليه أن يكتبهاـ