الموسيقى الكلاسيكية .. قصة حب مع العقل والروح
كيف جذبتني الموسيقى الكلاسيكية في سن مبكرة وأنا من عائلة لا تعرف شيئاً عن الموسيقى ولا وسيلة فيها لسماعها، وفي محيط إجتماعي ليست الموسيقى مألوفة فيه باستثناء حفلات زفاف بسيطة تقام، ربما مرة أو مرتين في كل عام، حيث يشارك الطبل والمزمار فيها إذا كانت العائلة ميسورة نسبياً، وبضع مناسبات دينية تنشد فيها التراتيل والمدائح النبوية. بيئة فلاحية محافظة، شبه أمية وعائلة متدينة بالكاد تدير معاشها اليومي. فلماذا اخترتُ الموسيقى الكلاسيكية ولم أختر ما كان موجوداً من أنغام الترفيه والطرب؟ لكن، هل نحن من نختار الموسيقى أم هي التي تختارنا؟
الموسيقى الكلاسيكية غريبة عن تربة الشرق، هي نبتة وافدة من الغرب، وأحد أعمدة الحضارة الغربية، لأنها ولدت من رحم الكنيسة، لذا لها جانبها القدسي، تتسم بالجلال والرفعة، ومكانة تفرض الهيبة والعزلة مع النفس حتى تفتح أسرارها الخفية لنا على انفراد. انها تخاطب الروح والعقل، بينما الموسيقى الشرقية تتسم بالميوعة العاطفية وتخاطب الحس. لم أختر الموسيقى الكلاسيكية تعاليًا على الشرقية، كلا. فأنا استمع بشغف الى أغاني أسمهان، وأعتبرها أرقى صوت نسائي في الموسيقى العربية. كما استمتع كثيرا بأغاني أم كلثوم، تلك التي من ألحان الشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي، لكني لا أستسيغ أغنياتها المتأخرة فألحانها طربية فيها افتعال تقني نشاز عن طبيعة الموسيقى الشرقية الأصيلة. إستمع الى أغنيتها "الأولة في الغرام" من تلحين زكريا أحمد ثم أغنية "أنت عمري" من تلحين عبدالوهاب وستدرك ما أعنيه
عذوبة الخيال السمعي
الموسيقى الكلاسيكية هي غذاء العقل والروح، تتطلب دراية وتمريناً على السماع لأن متلقيها يستعين بالخيال السمعي لاستثارة المشاعر والأحاسيس عن طريق الصوت، عكس اللوحة الفنية أو الكتاب الذي ينقل الأفكار والمشاعر عن طريق حاسة البصر. كما تتطلب الموسيقى الكلاسيكية قراءة متأنية لتاريخها وخصائص معمارها اللحني والهارموني في كل مرحلة من مراحل تطورها: كيف ولدت من رحم الكنيسة، كيف شبّت عن الطوق وغادرت أمومة الكنيسة الى الفضاء الرحب. ما هي المراحل التي مرت بها، بدءاً من التراتيل الغريغورية الى موسيقى عصر النهضة فالباروك والكلاسيك والرومانسية والكلاسيكية الجديدة. الموسيقى الكلاسيكية، مثل كل معرفة، لا تأتي من معين واحد، بل من تنوع حقول المعرفة. انهاعملية تراكمية تتكون وتثرى من مصادر متنوعة.
نشأت في مجتمع ريفي محافظ، لا أثر للتعليم الموسيقى في مناهجه الدراسية، وفي عائلة لا أثر للموسيقى فيها ولا أحد يعنى بها. في محيط اجتماعي ليست فيها من وسيلة للتفاعل مع الموسيقى، حتى العربية منها. كان هنالك راديو خشبي ضخم يعمل بالبطارية في أحد المقاهي الثلاثة او الأربعة التي كانت موجودة في بلدتي داقوق. كنت أتمشى قريبا من ذلك المقهى حين كنت أنسل من محل بقالة والدي، خاصة في ساعات صلاة الظهيرة أيام الجمع حيث كانت تذاع القراءة القرآنية من قبل القراء المصريين مثل عبد الفتاح الشعشاعي وأبو العينين الشعيشع والحصري وغيرهم من أولئك الذين يرتلون القرآن نغمياً وفق المقامات الشرقية. كانت تأسرني تلك القراءات، وتثير في داخلي مشاعر وأفكاراً غامضة وملتبسة بما فيها من تلوينات لحنية وفقرات نغمية. كما كانت تذاع في ذلك اليوم الأغنيات الدينية لأم كلثوم مثل ولد الهدى، نهج البردة، سلو قلبي، وأغاني أخرى لعراقيين وعرب من راديو بغدا
وبالإضافة لجهاز الراديو هذا كانت تأتي الى بلدتنا سينما متجولة مرة في كل عام، عبارة عن سيارة صالون، أظن انها كانت تابعة لدائرة من دوائر التوعية والإرشاد آنذاك، فيها جهاز سينما تعرض أفلاماً للتوعية الصحية والاجتماعية. وكانت تنصب على سطح تلك السيارة مكبرة صوت وجهاز أسطوانات لبعض الأغاني التركمانية مثل اغنيات عبدالواحد كوزه جي اوغلو والكردية لعلي مردان والعربية مثل ناظم الغزالي وزهور حسين لإشعار أهل البلدة بوصول السينما، وكان هذا حدثاً مثيراً بالنسبة للصبية مثلنا.
أخيراً.. عازف كمان
حين أنهيت دراستي في دار المعلمين في كركوك تعينت مدرساً في متوسطة بلدتي داقوق. كنت آنذاك تعلمت عزف آلة الكمان على يد مدرس الموسيقى في الدار، وأظن ان اسمه كان جورج عبد المسيح. كان منهج الموسيقى في الدار يتكون من درس واحد في الأسبوع يقتصر على عزف المدرس لبضع قطع موسيقية عربية، غير ان ذلك لم يطفئ ظمئي بل كان طموحي أن أتعلم العزف بنفسي، فاتفقت مع المدرس ان يعلمني العزف على آلة الكمان في دروس خاصة خارج الدوام الرسمي فكان ذلك. كنت أتمرن ساعات في اليوم حتى اتعلم قطعة من الموسيقى العربية او التركمانية الشائعة آنذاك.
كنا مجموعة من الطلاب من خارج مدينة كركوك ونعيش في القسم الداخلي التابع لدار المعلمين الذي كان يوفر لنا الطعام والمبيت. ولأن كل غرفة كانت تأوي مجموعة من الطلاب لم يكن مسموحاً ممارسة تمريناتي على العزف في الغرفة وبقية زملائي يراجعون دروسهم. وكانت قاعة الطعام تقفل بعد انتهاء الطلبة من كل وجبة. فتحدثت الى مدير القسم، وأظن ان اسمه كان ياسين، اذا لم تخني الذاكرة، بأن يسمح لي بالتمرن في القاعة بعد ما يفرغ الطلبة من طعامهم، فتلقى طلبي بترحاب وحماسة بل وأثنى على هوايتي وطلب من مراقب القسم ان يسمح لي باستعمال قاعة الطعام متى أشاء للتمرن على العزف.
في بيتنا راديو
في تلك المرحلة، وبعد ان بدأت استلم راتبا شهرياً بانتظام من وظيفتي، اقتنيت جهاز راديو خشبي ماركة “باي” الانجليزية يعمل على البطارية، فكان وجود مثل هذا الجهاز في البيت حدثاً مهماً بالنسبة لي اذ كنت أتنقل من محطة الى أخرى بحثا عن الموسيقى، وبالطبع كنت أتوقف أحيانا عند مقطوعات موسيقية أجنبية. وقد اكتشفت في ذلك الوقت، وبطريق الصدفة، ان محطة إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية تذيع ظهر كل يوم في الساعة الواحدة برنامجاً بعنوان "شعر وموسيقى" عبارة عن قراءات شعرية عربية مع فواصل من الموسيقى الغربية الكلاسيكية، فكان ذلك البرنامج وجبة دسمة تشبع جوعي الى الشعر والموسيقى، ربما كان ذلك البرنامج من بدايات تماسي مع الموسيقى الكلاسيكية، فتعلقت بهذا البرنامج استمع كل يوم الى مادتين من أهم المواد التي أتطلع الى الاصغاء اليهما
كنت استغل دروس مادة الرسم، التي كنت مكلفا بتدريسها الى جانب اللغة الإنجليزية في متوسطة داقوق، وأأخذ آلة الكمان معي الى المدرسة وأعزف لطلبة الصفوف مقطوعات شائعة من ألحان الأغاني التي كانت متداولة آنئذ، وأحاول تشجيعهم على الاستماع الى الموسيقى متى سنحت الفرصة لهم. كما حاولت تعليم العزف لبعض أقربائي وأصدقائي المقربين، إلا ان جهودي لم تثمر كثيراً.
أنغام تحت النجوم
في صيف العراق الحار جداً تعودنا ان ننام ليلاً فوق السطوح المكشوفة حيث تنخفض درجات الحرارة، اذ لم يكن هناك تيار كهربائي في بلدتنا، وبالتالي فلا مكيفات ولا ثلاجات. كان بيتنا الطيني مكونا من طابقين فكنا ننام في أشهر الصيف في سطح الطابق الثاني، فكنت أحمل جهاز الراديو الضخم معي كلما صعدنا الى السطح وأضعها قريبا من رأسي واستمع الى برامج المحطات المختلفة ثم انزله صباحاً معي من السطح.
كان النوم فوق السطح يستهويني كثيراً، حيث تهب، رخياً منعشاً، تلك النسمات الخفيفة بعد غروب شمس نهار قائظ، كنت ونا مستلق على الفراش أتأمل السماء، هذا الفضاء اللامتناهي، الممتلئ بالمليارات من النجوم المتلألئة، مثل اللآلئ المنثورة، أو قناديل صغيرة معلقة من القبة السوداء، كنت احس ان حبات هذه اللآلئ قريبة مني اذ يكفي أن أمد كفي وأملأ منها ما أشاء. وما كان يكثف اشعاعها انعدام أعمدة النور او المباني المضاءة التي تخفف من شعاع تلك النجوم الباهر
وفي ليلة من تلك الليالي الصيفية الساحرة، وأنا اتنقل من محطة الى اخري في جهاز الراديو القابع الى جانبي، تسمرت أصابعي فجأة على نغم موسيقي ساحر، حسبته أول الأمر نغم آلة كمان لكن طبقة صوت الآلة كانت أوطأ وأعذب، فأدركت انه من آلة التشيلو بالاشتراك مع الأوركسترا. لم أعرف اسم المحطة ولا اسم الموسيقى ولا العازف المنفرد على الآلة. كانت موسيقى آسرة، حزينة، مبجلة تدخل الى القلب مباشرة. ظللت منبهراً بهذه القطعة الموسيقية، مبتهلاً ان لا تنتهي الى الأبد. وبالطبع، وصلت الى خاتمتها وتحدث المذيع بلغة لم أفهمها فضاعت عليّ اسم المقطوعة وصاحبها. بقيت هذه الموسيقى، وخاصة لحن الثيمة الرئيسية للتشيلو، في ذاكرتي أرددها مع نفسي في البيت، في المدرسة، في الشارع، سنين لم أنسها حتى بعد إستقراري في لندن
ة.
موسيقى خجولة
في أحد الأيام، وأنا في صحيفة "الشرق الأوسط" في لندن أعد مواد الصفحة الثقافية التي كنت محررها المسؤول، زارني الكاتب العراقي الراحل نجيب المانع وقد جلب مادته الأسبوعية لنشرها في الصحيفة. وكانت مواده متابعات ثقافية رصينة مزيجاً من الأدب والموسيقى الكلاسيكية وشيئاً من مذكراته، وأثناء حديثنا ذكرت له قصة ذلك اللحن السحري الذي أسرني في ليل صيفي فوق سطح منزلنا في بلدتي، فانتفض من مقعده متسائلاً بحماس: ألا تدري لمن هذا اللحن؟ فأجبته كلا، فقال انها مقطوعة “ايليجيه” للموسيقي الفرنسي جابرييل فوريه. وبدأ يحدثني عنه وعن موسيقاه. وكان متبحراً في شؤون الموسيقى الكلاسيكية وأوصاني ان استمع الى موسيقىاه قائلاً: وأنت تصغي اليه تحس ان في موسيقاه نبرة من الأسى، انها موسيقى خجولة..